احمد يوسف التاي يكتب: التخوين
إذا رأيت رجلاً ناصع الجلباب يُحسن (لف) العمامة أكثر مما يُحسن الظن بالناس، تأكد أنك رأيت سياسياً يجيد فن (تخوين) الآخرين كسلاح يشهره في وجه الخصوم، كأن يقول هذا عميل وهذا خائن وذاك مرتزق، وهؤلاء خونة مارقين… وبالطبع مثل هذا السياسي الذي يجيد لغة التخوين ويحفظ مفرداتها، كأني بالقائل: (ويعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ) قد عناه تصريحاً لا تلميحاً، سياسي بهذا الوصف قد تجده ينتعل حذاءً أبيض يحاكي بياض أسنانه التي احترفت الابتسامة (الصفراء) حينما ينوي الضرب تحت الحزام… سياسي بهذه المواصفات تحدثه نفسه دائماً بأن يُعمل تفكيره واجتهاداته كلها في كيف يحمي نفسه ومصالحه ليضعها في قلاع لا تصلها القوانين ولا (الدساتير)، ويعصف ذهنه في كيف ينسج تدابيره ليُحصن ممارساته الباطلة لتبدو حقاً، ويجعل كل همه في كيف يُزين للناس سوء أعماله ليراها الناس حسناً، ويستمطر أفكاره لتصب جميعها في كيف يبتكر الحيل والمُكر والدهاء، وفي كيف يكون خطيباً مفوهاً يسحر الألباب ببيانه، ويظهر خلاف ما يبطن… سياسي بهذه المواصفات لا يأبه بما يقول، ولا يلقي بالاً لما يصرح به للصحف ولا يزن الأمور بميزان العقل والمنطق والخير، لأنه ببساطة لا يرى حرجاً ولا صعوبة للتراجع والإنكار، فإذا سمعت سياسياً يبتلع حديثاً دون حياء ويُكذب كل الصحف ويردد في حديثه عبارة (إن النقل لم يكن دقيقاً) أو عبارة (إن حديثي أُخرج من سياقه) تأكد أنك أمام داهية من دهاقنة الساسية، إزاره الميكافيلية وعباءته الكذب.
وفي مقابل هذا السياسي (الزنكلوني) تجد آخر يعيش خارج نطاق التأريخ، غير مواكب للغة العصر التي تفرِّق بين السياسي وإنسانيته وصدقه وتجرده، وبين السياسي وضميره… قطعاً فإن سياسياً كهذا فهو سياسي مبدئي يتعاطى السياسة بصدق وتجرد ونكران ذات ويتفاعل مع الأحداث بما يمليه عليه ضميره الذي لم يخبُ بريق جذوته، يضحي من أجل الآخرين، يُقدم ما هو استراتيجي على ما سواه، والعام على الخاص ــ ألم أقل لكم إن هذا النوع يعيش خارج نطاق التأريخ لأنه لا يجيد اللعب في الـ ( Dirty Game)…
السياسي المبدئي أمثال ممن قرأنا عنهم في المذكرات التي وثقت لتاريخ النضال الوطني الذي واجه الوصاية الأجنبية لم يعدُ موجوداً بيننا، فقد طوتهم صفحات التأريخ وليس بالإمكان أن يعيد التأريخ نفسه…. وأجد لنفسي العذر حينما أراني مزهواً ــ حد الافتتان ــ برموزنا الوطنية التي أعطت السودان وشعبه ولم تستبق شيئاً، وعاشت بين أهله كما واحد من غمار الناس بساطةً وصدقاً وتجرداً وإخلاصاً.. ربما أكون وغيري ممن يتفقون معي في هذا مصابين بـ (النوستالجيا)، ولا أدري إن كنا كذلك أم لا.. اللهم هذا قسمي في ما أملك.
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.
صحيفة الانتباهة