الصيام وباطن الإثم
الخامس عشر،
من (سلسلة مقالات من وحي رمضان 1444).
يقول الله سبحانه:
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} 120 الأنعام
من هذه الآية الكريمة يتبين لنا أن الإثم له ظاهر وباطن، وقد ذهب المفسرون إلى أن الإثم الظاهر والباطن خاص بأكل الميتة وبشرب الخمر علانيةً وتسترًا، وفسر غيرُهم الإثم الظاهر بالزنا المعلن بذوات الرايات، والباطن بالزنا الخفي واتخاذ الأخدان، وذهب آخرون إلى أن الإثم الظاهر هو الطواف بالبيت عراةً، والباطن هو الاستسرار بالزنا، وقال غيرهم إن الباطن منه هو الزنا، والظاهر ما ورد في الآية 23 من سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ….}، كما فسر آخرون الإثم الظاهر بأعمال الجوارح، والباطن بالنوايا وأعمال القلوب المستترة.
ولقد ركنت إلى التفسير الأخير، فتعالوا معي ياأحباب إلى هذا التدبر والوقفة:
العُرِيُ منبوذٌ في كل الأديان منذ أن غوى الشيطانُ أبانا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، وأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا يُتلى:
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} الاعراف 27
وظل الشيطان يسعى إلى نزع لباس بني آدم منذ الأزل ليريهم سوءاتهم. ومعلوم أن كشف العورات إهدار للآدمية وإخلال بمستوى الانسانية، وهو رفع لحفظ الله ومعيته لابن آدم، وبالتالي يتيح ابن آدم جسده وروحه للشيطان لاغوائه وهو الذي قال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} الأعراف، وكذلك يتيح نفسه لهواه وللنفس الأمارة بالسوء لأن تسوقه سوقا إلى الفسق والفجور والمعصية، ونجد الذين تركن أنفسهم لانتفاء الحشمة وحب العري أنأى عن التدين، فلن تجد شيوعيا أو علمانيا محبا للحشمة، بل إنهم للعرى أحب وأهوى، تزينه له نفسه والشيطان بكون ذلك (حرية واستنارة)، ولاغرو أن للفكر والمنهج أثره وبصمته على الوجدان والذائقة والوعي، والله ماجعل لامرء من قلبين في جوفه.
والتعري ليس بالضرورة ان يكون الملموس الذي نعلمه، إنّما يكون (محسوسا) أيضا. فالإثم له ظاهره وباطنه كما نصت الآية الكريمة أعلاه، فقد يسترسل المرء منّا بخياله ويتذكر مشهدَ عُريٍ، أو تعرض له في خاطره معصيةٍ اقترفها تحيدُ به عن الاستغراق في الطاعة والإخبات لله خلال صلاته أو حين استغراقه في تلاوة القرآن، أو حتى في ثنايا التفكُّر في ملكوت الله عندما يكون خاليا. هذا التخيل (العاري) ينأى بالوجدان عن الارتقاء في مدارج العروج الروحي إلى الله، قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:
(قل تعالى: … وما تقرب لي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها وإذا سألني لأعطينه وإذا استغفرني لأغفرن له وإذا استعاذني أعذته).
هذا الأمر يحتاج إلى خشوع وإلى قلب حاضر حين الصلاة والطاعات واداء تلك النوافل.
علينا أن نستحضر ونتذكّر الصور الوضيئة في ثنايا ذكرياتنا، والتي تعلي من شأن الإيمان في النفس كلما اسلمنا أنفسنا لله، فذاك يؤدي تلقائيا إلى مسح كل ذكرى فيها عري محسوس في خيالنا، مما يزيد من وضاءة وجداننا وطهر خواطرنا، ولنحرص على (طرد) وكظم كل خاطرة وذكرى تشي بفسق أو معصية، وللعلم فإن كظم الغيظ في نهج الاسلام محمدة بعكس مايقوله علم النفس الغربي، ولعلي أحيلك عزيزي القارئ إلى كتاب فيه الكثير من الافادة اسمه (نحو علم نفس اسلامي) قام بتأليفه عدد من علماء النفس المسلمين جزاهم الله خيرا.
وهنا حري بنا أن نقف هنيهة بين يدي انبياء الله ورسله عليهم السلام وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام، فقد عُهِدَ عنهم جميعهم أنهم ركنوا إلى (خلوات) قبيل أن يُبعثوا، خلوات أمضوا خلالها من الوقت الكثير، تفكّرا في ملكوت الله، وترويضا للخيال في مدارج العروج الروحي إلى الله في عليائه، وعلى الأرجح كانوا يصومون خلال تلك الخلوات، فلم يذكر عن أحدهم أنه كان يأخذ معه طعاما او شرابا، وهكذا كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم في غار حراء إلى أن جاءه جبريل عليه السلام، فالصيام ارتقاء ببشرية ابن آدم إلى ملائكية ليس من جبلتها الأكل والشرب، والصيام موئل للتقوى الموصلة إلى رضوان الله واصطفائه.
ولعل أمر الخلوة انسرب -حتى- إلى ثقافات لاوصل لها بدين سماوي، مثل رياضة اليوجا لدى البوذيين وسواهم.
اللهم أجعلنا انقياء أطهارا، ظاهرا وباطنا، جسدا وفكرا وروحا، وكذلك يوم نقوم إليك يوم البعث والنشور، وهبنا ياحنان يامنان لذة النظر إلى وجهك الكريم حين نلقاك من بعد عمر طويل وعمل صالح متقبل وسليم، إنك ياربي وليُّ ذلك والقادر عليه.
وإلى اللقاء في المقال القادم إن شاء الله، ولعله عن معركة بدر بحول الله.
adilassoom@gmail.com
عادل عسوم
صحيفة الانتباهة