رأي ومقالات

حليم عباس: هذه الحرب ليست عبثية

حزنت مثل آلاف السودانيين على مقتل البطل الرقيب عثمان مكاوي الملقب ب”ود فور”. تقبله الله مع الشهداء والصديقين. لم أصدق خبر استشهاده وكنت أنتظر تكذيب الخبر طوال اليوم ولكن الموت حق ومكتوب ومتوقع في الحرب.

يجب أن نتذكر وأن لا ننسى أبداً أن الشهيد ود فور هو واحد من آلاف الأبطال من الجنود المجهوليين المنسيين، وما كنا لنعرفه أو نسمع عنه لولا تسجيلاته الصادقة التي وصلت إلى الملايين من السودانيين؛ هناك المئات من “ود فور” من الجنود والضباط استشهدوا في هذه الحرب. ولا يُمكن أن تضيع دماءهم وأراحهم هدراً، فهذه الحرب ليست عبثية؛ هذه حرب تفقد فيها البلد خيرة أبناءها من جنود وضباط القوات الملسلحة، هؤلاء الرجال لم يموتوا من أجل لاشيء، ولم يموتوا من أجل شخص أو حزب أو قبيلة، ماتوا من أجل وطن، في أكثر حرب جدية يخوضها الشعب السوداني.

هذه الحرب ليست عبثية، وهي لم تبدأ منتصف أبريل الماضي. فشهيد آخر هو المقدم ركن مأمون عبدالقادر كان قد أخبر المحكمة العسكرية ومنذ وقت مبكر أن الحرب قد بدأتها المليشيا منذ أن انفتحت في الخرطوم مع ثورة ديسمبر. الشهيد مأمون هو أحد أبطال “انقلاب بكراوي” الشهير في ديسمبر 2021، كان في السجن ويتعرض للمحاكمة حين قامت المليشيا بانقلابها الأخير، ولكنه انطلق بعد أول رصاصة في الحرب من السجن إلى أرض القتال، فلا وقت لتضييعه في التلاوم. مثل كل الموقوفين من رفاقه في المحاولة انقلاب بكراوي بما في ذلك اللواء بكراوي نفسه، كلهم خرجوا من السجن إلى أرض المعركة. إستشهد المقدم مأمون عبدالقادر لتعود أقواله في المحكمة إلى الواجهة من جديد، والتي كانت قد نُشرت في وقتها عبر صفحة “مونتي كاررو” ولكن دون أن تؤخذ على محمل الجد. فما الذي قاله الشهيد؟

من ضمن أقواله أنهم ليسوا انقلابيين، وأنهم أرادوا القيام بما تخاذلت قيادة الجيش عن القيام به من التصدي للميشيا والتي أطبقت على الخرطوم، وتتهيأ للانقضاض على البلد في أي لحظة. ذكر المقدم مأمون في المحكمة أنهم في سلاح المدرعات تلقوا تنويراً من مدير هيئة الإستخبارات الفريق ياسر محمد عثمان بأن حميدتي يخطط للاستيلاء على السلطة ووضع البرهان في الإقامة الجبرية وبأنهم كضاط تصرفوا بموجب قراءات لانتشار قوات الدعم السريع وتموضعها في العاصمة وبموجب معلومات مؤكدة من مؤسسة الجيش نفسها للتصدي لخطر هذه المليشيا. فحركة بكراوي كانت ضد الدعم السريع في الأساس، ولم تكن من فراغ.
إستطاعت قيادة الجيش السيطرة على حركة بكراوي بحكمة ومن ثم تأجيل المعركة مع الدعم السريع. وهي حكمة تُحسب للبرهان ورفاقه في قيادة الجيش. فالمواجهة مع المليشيا في ظل وجود حكومة العملاء والخونة برئاسة حمدوك والتي كانت تُسمى بحكومة الثورة ستكون باهظة التكلفة. كلنا نتذكر الصيحة التي أطلقها عضو مجلس السيادة حينها ود الفكي: “هبوووا لدفاع عن الديمقراطية وحماية الانتقال”. هو منذ ذلك الوقت كان يعني (دون وعي منه، فهو أغبى من أن يدرك ذلك) هبوا للدفاع عن الدعم السريع. المواجهة مع الدعم السريع في ذلك الوقت كانت ستعني مواجهة حكومة الثورة وكان الشارع شارع ديسمبر المغيَّب سيهب للقتال جنبا إلى جنب مع الدعم السريع في “معركة الديمقراطية”. ولذلك يجب أن نقدر دهاء الجيش في الإطاحة بحكومة العملاء والانقلاب على الدعم السريع في آن واحد في حركة مزدوجة وباستخدام حميدتي نفسه، ولقد تكفل غباء ناشطي قحت بتسهيل هذه المهمة.

لقد كانت قرارات 25 اكتوبر حلقة في هذه المعركة. وهي معركة بدأت منذ تمرد قوات الدعم السريع مع “ثورة ديسمبر”. فقد تمردت قوات الدعم السريع وانتشرت في الخرطوم وحاصرت القيادة العامة للجيش وذهبت لتحاصر المدرعات وحدث الاحتكاك الشهير بين قيادة سلاح المدرعات والمليشيا في 12 أبريل 2019 (أي بعد يوم واحد من بيان ابنعوف)، والذي قاد فيما بعد لإبعاد قائد سلاح المدرعات اللواء نصر الدين إرضاءً للمليشي حميدتي. وكانت هذه هي شرارة انقلاب بكراوي والشهيد المقدم مأمون عبدالقادر ورفاقهم بعد أكثر من سنتين تمددت فيهما المليشيا عسكريا وسياسيا واقتصاديا وأوشكت أن تسيطر على كل البلد. فهذه حرب مستمرة ولم تبدأ الآن، ولكنها تنتهي الآن.

فالجيش ومن خلفه الشعب يخوض هذه الحرب في ظروف أفضل بكثير، بعد إسقاط ودحر سلطة الخونة المسماة سلطة الثورة، وإلا لكانت المعركة الآن مختلفة كُليا. الجيش يخوض الآن حرب الكرامة والشعب كله ملتف خلفه والعميل حمدوك خارج السلطة (لو كان موجودا لاستدعى الدبابات الأمريكية بخطاب رسمي من رئيس الوزراء الشرعي، مثلما استدعى بعثة فولكر)، وحفاء المليشيا من عملاء أحزاب قحت سيئة الذكر خارج السلطة ومجرد خونة منبوذون مكروهون من أغلبية السودانيين الشرفاء، وفولكر مبعوث الدول الإستعمارية مطرود لن يطأ أرض السودان مرة أخرى. أما المليشيا فهي عبارة عن مجموعة من الأوباش اللصوص المجرمين وقد عزم الشعب السوداني على التخلص منهم إلى الأبد.

هذه الحرب ليست عبثية، وشهداء القوات المسلحة لم يموتوا عبثاً، هذه معركة لتحرير السودان من أكبر خطر تعرض له منذ استقلاله من المستعمر. خطر استيلاء مليشيا مجرمة على السلطة وباسم الثورة والديمقراطية وبالتحالف مع قوى سياسية مدنية مدعومة من الخارج باسم الثورة والديمقراطية، وهي تعمل على تفكيك الجيش وتفكيك السودان نفسه أيضاً باسم الثورة والديمقراطية، وهناك ألوف الحمقى يصدقون ذلك.

الشعب السوداني انتصر في هذه الحرب بانتصاره في أكبر معركة وهي معركة الوعي؛ الوعي بمخططات العملاء والخونة ووقوفه خلف جيشه، وذلك على الرغم من الدعاية الجبارة للمليشيا وأعوانها من القوى المدنية والتي ظلت تصور معركة الجيش الوجودية ضد المليشيا على أنها مجرد معركة من أجل المؤتمر الوطني والنظام االسابق، وهي تتجاهل عن عمد حقيقة التناقض الهائل بين مؤسسة الجيش بضباطها وجنودها وبين المليشيا، وأن جندي الجيش ليس بحاجة إلى تحريض من أحد، وضباط الجيش كلهم مثل الشهيد مأمون يدركون خطر هذه المليشيا على الجيش وعلى الدولة ككل بوضوح تام يجعلهم على استعداد للتضحية بحياتهم للتصدي لها. هؤلاء يقاتلون باسم الجيش وباسم الشعب السوداني، ولا يعملون مع أحد.
هذه الحرب ليست عبثية، وتضحيات هؤلاء الشهداء هي دَين على كل سوداني وطني ولا ينبغي أن تضيع هدراً، ويجب أن يتحقق ما ماتوا لأجله.

ونحن لا نريد أن نزايد على قيادة الجيش لا في وطنيتم وحرصهم على البلد، ولا في حرصهم على الجيش، ونحن نعلم أن أي عسكري جيش هو مشروع شهيد وأولهم البرهان نفسه. ولكن مع ذلك، لابد من القول بأن هناك أشياء كثيرة يجب أن تُصحح، فكل الشعب السوداني يعلم الأوضاع السيئة لجنود القوات المسلحة من هم في الخدمة ومن هم في المعاش والمصابين ممن فقدوا أعضاءهم في الحروب. هذه الحرب يجب أن توقظ ليس الجيش وحده وإنما أيضاً المواطن السوداني، هؤلاء الجنود الذين يضحون بأرواحهم وبأعضاءهم يفقدون أيديهم وأرجلهم في الحرب ويتشرد أبناءهم وأسرهم، هؤلاء الرجال ليسوا سلعة رخيصة تُستخدم في زمن الحرب ثم تُنسى وتُترك للبؤس والمعاناة والموت البطيء في وقت السلم. فللأسف ما قاله قائد المليشيا عن أوضاع جنود الجيش صحيح تماماً، فأوضاعهم سئية للغاية، ولكنهم مع ذلك لم يذهبوا حيث المال والغنائم والنهب مع المليشيا، ولم يغرهم ذهب حميدتي ولم يخدعهم كذلك خطاب المظلومية الذي تردده المليشيا وإعلامها؛ إختاروا القتال مع جيش بلدهم والموت من أجل الوطن. لذلك، فإن التقصير في حق هؤلاء الجنود وأسرهم من قيادة الجيش هو بمثابة خيانة عظمى. مثلما أن التنازل عن سيادة وعزة وكرامة هذه البلد مرة أخرى وتركها للتدخلات الخارجية وعملاء الداخل هي أيضاً خيانة للبلد وللشهداء، فالوضع السياسي ما بعد الحرب يجب أن يكون بحجم التضحيات. وهناك أمور كثيرة يجب أن تُصحح بعد هذه الحرب.

حليم عباس