الاهتمام المصرى فى السودان .. ما الحل؟
فعلا مايحدث فى السودان يحظى باهتمام مصر، ويختلف السودان فى هذا عن دول مصر المجاورة وجذريا. وليس فقط لأنه حتى قبل استقلال السودان كدولة فى منتصف الخمسينيات شكلت مع مصر دولة موحدة فى وادى النيل، ولكن أيضا تستمر هذه الوحدة فى اقتسام هذا النهر ـ شريان الحياة فى مصر ـ ثم التنسيق معا فى مواجهة الأزمة الحالية مع اثيوبيا ومشروعاتها ماهى المشكلة فى هذا الصدد ومغزاها؟ وهل تعود إلى السياسة بالمعنى الواسع فى السودان أو انحرافها وتداعيات هذا الوضع؟
غالبية العامة وحتى بعض المتخصصين فى علوم الطبيعة ـ فى مصر والعالم ـ ينظرون إلى السياسة والسياسيين على أنهم مفسدة فى الأرض كما أراه فى مناقشاتى مع ابنتى الطبيبة، وأننا لانحتاج «علم السياسية» فى المجتمع وجامعاته. وقد أضحكتها كثيرا عندما اقتبست مقولة أشهر أساتذة علم السياسة فى جامعة هارفارد ـ كارل دويتش ـ الذى قال لنا نحن الطلاب فى أول محاضرة كأستاذ زائر فى جنيف ـ أن السياسة كالطب بمعنى أن الطب يبغى راحة المريض ، وأن السياسة تبغى راحة المجتمع، بمعنى حل مشاكل الناس وإدارة تقدم هذا المجتمع. بالرغم من أن ابنتى لم تر فى هذه المقولة إلانكتة، فقد كان دويتش جادا تماما. والمفتاح هو أن نفرق بين السياسة كضرورة لإدارة المجتمع وتقدمه وبين بعض السياسيين الذين لايبغون إلا الوصول إلى السلطة من أجل أهداف شخصية بحتة، تماما مثل بعض الأطباء الذين يتاجرون بمهنتهم من أجل المال. إذن من المهم التمييز بين المهنة نفسها وأصولها وبين من يمارسونها، أى بين السياسة وبعض السياسيين .
ماذا تقول لنا فى هذا الصدد أحداث السودان الحالية؟
قد يندهش العديد من القراء عندما يعرفون أن السودان ذا الـ45 مليون نسمة ليس فقط أكبر الدول الإفريقية مساحة ولكنه أيضا دولة غنية، خاصة فى المجال الزراعي. بل إن سعة مساحته، تؤدى إلى تنوع المناخ بين المناطق المختلفة، وبالتالى تعدد المحاصيل الزراعية. وبما أن السودان لايستغل إلا 20% من أراضيه الصالحة للزراعة، فكان هناك مشروع عربى للإستثمار لكى يصبح السودان مزرعة العالم العربى، وبالتالى تقليل اعتمادنا على الخارج فى استيراد الغذاء. بل إن السودان مازال يقوم بتصدير بعض البترول، بالرغم من أنه فقد نحو 75% من إنتاجه البترولى بعد انفصال جنوب السودان لتكون دولة مستقلة. وهنا فى الحقيقة أول مظهر مهم لفشل السياسيين السودانيين: فهم لم يستطيعوا إدارة التنوع العرقى فى هذا البلد، بل الوقوع فى حروب أهلية الواحدة بعد الأخرى، والتى لاتزال مستمرة. بل إن إدارة الحياة اليومية نفسها أصبحت صعبة حيث ارتفع معدل التضخم فى 2019 إلى 383%.
أى ارتفعت الأسعار نحو أربعة اضعاف، مقارنة باوروبا والولايات المتحدة التى كان فيها معدل التضخم نحو 1/40 من المعدل فى السودان ، وهكذا بعيدا عن مناطق الصراعات العرقية والحروب الأهلية، وازدادت معاناة السودانيين فى حياتهم اليومية بالرغم من كلام السياسيين المعسول ، ازداد الأمر سوءا حتى وصلنا إلى الحرب والاقتتال داخل النخبة العسكرية نفسها التى تسيطر على الدولة: الجيش السودانى بقيادة برهان، وميليشيات الدعم السريع ـ التى هى حقيقة جيش داخل الجيش ـ بقيادة نائبه حميدتي. إذن ليس فقط المجتمع يعانى الانقسام والحرب، بل إن بوصلة المجتمع التى من المفروض أن ترشده وتقوده تفكر. وهناك تنافس فى تدمير المجتمع: ليس فقط مدارسه وسبل إطعامه، بل مستشفياته وبنوكه. والنتيجة أن «الوطن» أصبح للسودانيين ماهو إلا جهنم يجب الخروج منه بأسرع وقت كسبيل للخلاص. يقترب عدد اللاجئين فى البلاد المجاورة للسودان من نحو 450 ألفا ، واضطرت مصر إلى تنظيم هذه العملية على أراضيها، وفرض بعض القيود بعد أن زاد عدد اللاجئين فى أيام قليلة على 200 ألف.
فى الحقيقة لايزال البعض فى مصر وفى المنطقة العربية والجنوب العالمى عامة يعتقد أن المسئول عن أزمة السودان ـ أو سوريا أو غيرهما من حالات التأزم والانهيار الداخلى هو مايسمى الاستعمار تاريخيا، لعب الاستعمار والاحتلال الأجنبى دورا فى تشوية هذه الدول وتطور مجتمعاتها، وهو موضوع يستحق مقالا مستقلا، ولكن بالنسبة للسودان أو مثيلاته فإن هذا الكلام بعد 67 عاما من الاستقلال وسيطرة النخبة الداخلية على الحكم هو تشخيص غير مقنع للأزمة الحالية، بل هو تبرئة لسلوكيات بعض هؤلاء السياسيين . هناك بالطبع حاليا تدخل من أطراف خارجية، وليس بالضرورة من دول الاستعمار التقليدى، ولكن مايسهل تدخل هذه الأطراف الخارجية هو مايحدث فى الداخل ، هو الاقتتال حاليا داخل النخبة الحاكمة أو بوصلة المجتمع والتى يحاول أفرادها استعمال كل الوسائل ـ بما فيها الأطراف الخارجية من دول وشركات مرتزقة ـ ضد شركائها السابقين فى الحكم والذين هم الآن أكبر الخصوم . ما الحل؟ الحل يبدأ إذن داخليا وهدفه وقف معاناة السودانيين فورا، ولكن إعادة تكوين وتقويم بوصلة المجتمع، أى جهاز الحكم ، ويكون أولا بتطهير الجيش من العناصر الدخيلة عليه، أو إعدادها مهنيا وإدماجها فى هذا الجيش، أى يكون هناك جيش محترف واحد ومتوحد دون ميليشات.
فى نفس الوقت يتم العمل فى الخطوة الثانية والأساسية وهى تهيئة نخبة مدنية مسئولة من أجل حكم ديمقراطى حقيقى، أى تمثل كل طوائف هذا الشعب السودانى وتتمتع بالشفافية وتتقبل المحاسبة ومن الضرورى أن تساعد مصر ـ وحتى جامعة الدول العربية ـ فى وقف هذا «الجهنم » ـ كما سماه بعض المواطنين السودانيين الهاربين، لأن نيرانه ستمتد إلى الجميع على مستويات مختلفة، وفى أولهم مصر والمصريون.
د. بهجت قرنى – بوابة الأهرام