السّودانُ بلد تذبحَهُ الخُططُ السّوداء
يقول الســودانيون، بلهجتهم العامية، حين يتضايقون من أمرٍ، إنهم وضـعوا له “الخطّة السـودا”. ويعني ذلك، في الفهم الشعبي، الكيد وإضمار منافرة ما بعــدها اجتــماع. وربما يقع ذلـك بسببٍ موضوعي معلومٍ، أو بسببٍ ذاتي يغلب عليه شيءٌ من الحسـد.
في مقابلة أجرتها قـناة إعلامية عربية شـهيرة مع الوزيـر والسّفير العراقي الرّاحل، عـدنان الباجه جي، عن السياسة العربية في حقبة الستينيات من القرن الماضي، سُئل عمّن من السفراء العرب الذين كان لهـم دورٌ وبصمة في منظـمة الأمم المتحــدة، فذكر على الفور اسـم السـفير المندوب الدائم السوداني عـمر عـديل. … ولربّما لا تحفظ الذاكرة العربية، ولا الأفريقية، اسم عمر عديل، ولربّما لا يتذكّره السـودانيـون أنفسهم، فقـد كان مندوباً دائماً للسودان في المنظمة الأممية من 1958 إلى 1964. وتلـك سـنوات عاصفة في تاريخ هـيـئة الأمــم المتحـدة، شـــهدتْ حـراكاً من السـفراء الأفارقـة في التصدّي لمناهضـة الاستعمار في أنحاء العالــم وفي القـارّة الأفريقـية على وجـه الخصوص. ظلّ عمرعديل رئيساً نشــطاً لمجموعة السّفراء/ المندوبين الدائمين الأفارقة، وكان أول من طالب الأمم المتحدة، وباسم مجموعة السفراء الأفارقة، بالتدخّل لإطلاق سـراح المناضل نيلسون مانديلا الذي اعتقلته سلطات النظـام العنصري آنذاك في جنوب أفـريقيا، بعد عـودته من جولة خارجيـة، كان من بيـنها، ويا للمفارقة، زيارة للخرطوم التي عاد منها بجـواز سـفرٍ دبلوماســي منحته له حكومة السودان. وقد ترأس السفير عـديل اللجنة السياسية الأولى في دورة الجمعــية العــامة لعام 1961، وكان لـه الصوت الجهــيـر المُعبّـر عن المطـالبـة بتصـفـية الاسـتعمار، كمـا كان لهُ دورٌ مشــهـود في مسـاندة الـثورة الجـزائرية للخلاص من الاسـتعمار الفرنسي، ولنيل حقها في الاستقلال الكامل.
بلغتْ نجاحات عـديل أوجـها خـلال أزمة الكونغو، فقد تردّد المستعمر البلجيكي طويلاً في منح حق تقـرير المصير والاســتقلال لذلـك البـلـد الغـني بالمعــادن الثمـيـنة، مثل الـمـاس واليورانيوم. تصدّى السـفير عـديل في خطابٍ ألقاه في الجلسة الخاصة لمجلس الأمــن، مطالـبـاً بتصميم أكيد، بالتحـقـيـق في حـادثة اغتـيـال رئيــس وزراء الكونغـــو، باتريس لوممبا، وكان أمراً مؤسفاً التعتيم على حقــائق الجـريمة التي ظهر بعـد ســنوات أنّ وراءهــا أصابع المخابـرات الأميركية والبريطانية والبلجيكية، وتلك أفاعيل المخابرات في حقبة الحرب الباردة.
ولتميّـز أدائه في قضايا القارّة الأفـريقـية، خصوصاً في ملـف تصفـية الاستعمار، اعتمد الأمين العام للمنظمـة الأممية، داغ همرشولد، السفير عديل، مستشاراً له من ضمـن آخـرين، غير رسميّ، لكنه صار الناصح الأول للأمين العام في ذلك التجمّع غير الرسمي الذي عرف في أوسـاط أمـانة الأمم المتــحدة باسم “نادي الكونغو”. وبعد إخفاقات ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، السفير الهـندي دايال، طلـب همرشولد موافقة الحكومة السودانية على تعيـيـن الســفير عـديل ممثـلاً للأمـم المتحـدة في الكونغو، إلا أن ما تعرّضت له الكتـيـبة السودانية التي شـاركت ضمن القـوات الأممية في الكونغو من اعـتداءٍ سافرٍ عليها من قوات كونغولية، وعدم قيام المنظمة بدورها في الدفاع عن تلك القوات أو إدانة الاعتداء، جعلا الحكومة السـودانية ترفض الطلب.
بعد اغتيال لوممبا بأشهر، أُسقِطَت طائرة الأمين العام للأمم المتحدة، همرشولد، في الأحراج الحدودية، وهو في رحلته من زامبيا إلى الكونغو في سبتمبر/ أيلول 1961م، وفـق خطة تآمرية خبيثة، جرى التخلص عبرها من المسؤول الدولي، وأسـدل السـتار على قصته، وظلّ سـرّ إسقاط تلك الطائرة مجهولاً نحو 40 عاماً. قبل أن تبين وثائق أفرج عنها في جنوب أفريقيا أن أجهزة مخابرات دولتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن، كانتا متورطتين في خطّة التخلص من الأمين العام للأمم المتحدة عام 1961. وأشير لك هنا إلى أن لمخابرات كل من بريطانيا والولايات المتحدة أصــابع وألسـنة ولغتْ في الجريمة.
وفي البحث عن أمين عام جديد للأمم المتحدة في 1961، كتبت صحيفة هيرالد تريبيون في 23 سبتمبر/ أيلول 1962، تقريراً عن المرشّحين لتولي المنصب بعد داغ همرشــولد، من بين المتنافسـين الثـلاثـة، مندوب بورمـا يو ثانـت والباكسـتاني ظفـر اللـه خان والهـنـدي نارا سـيمهان، ولكــن تقرير الصحيفة جاء على “ما يـراه دبلوماسيون ذوو نظـرٍ بعـيد، أن لا تغـيب العين عـن المنـدوب السـوداني عمـر عديل، وهو قادم جديد وبقوّة في الساحة الدولية، ودبلوماسـي ذكي قاد اللجنة السياسية، وهي اللجـنة الأولى والأهم من لجان الجمعـية العـامة للأمــم المتحـــدة، في دورتـها لعام 1962، وأدارها بحنكةٍ واقتـدار”.
لم يحن، في ذلـك الـوقـت المبكّر (1962)، لأفريقـيـا دورها في تقـلّـد أحــد أبنـائها ذلـك المنصب المرموق، وفق تقلـيـدِ تداولِـهِ بيـنَ قـارّات العالــم. وكان الســـفير السـوداني عـمر عـديل من الذين اقـتربوا من التنافـس لتولّي المنصب، وقد تناهَى إلى علـمي من بعض معاصريه في تلكم الفترة أنه استـشـعـر ما تُبطنه جهات غربية، خصوصاً مـن ممثليها في مجلـس الأمـن، وقد أثار حفيظتهم علـوّ صوته في الجمعـية العامة في قضايا تصفية الاستعمار وأزمة الكونغو ودعم الثورة الجزائرية وقضايا نزع السلاح. وذلك متوقــع مـن مخابرات الدول الغربية، لما لها من أيـدٍ نافـذة إبّان حقبة الحرب الباردة، في تحديد وجهات السياسات الخارجية للبلدان الغربية تجاه دول العالم الثالث. وقد أدرك عديل أنه لن يجد فرصة للتنافس لمنصب قيـادة الأمـم المتحــدة، فكانت مساندته مندوب بورما، يو ثانـت، قوية وحاسمة، أدّتْ، مع عوامل أخرى، إلى أن ينال الأخير منصب الأمين العام الذي لو قُـدّر للمنــدوب السـوداني أن يناله، وهو الذي قد اقترب منه آنذاك، لشـكّل مكسباً للقارة الأفريقية، إلا أن تولِّـي مواطن أفريقي ذلـك المنصب المرموق لم يتحقق إلا بعد نحو 30 عامـاً من بروز اسـم السـفير السوداني عمر عديل للترشّـح للمنصب عام 1962.
تمضي السنوات ويكتسب السّـفير عديل خبرات وتجارب في عمله مندوباً لبلاده في الأمم المتحدة، جعلت منه نجـمـاً مميّـزاً في الأمـم المتحدة، على النحو الذي أشار إليه السفير عـدنان الباجه جي مندوب العراق في ذلـك الزمان. ولكن لمّا حانتْ الفرصةُ للـقـارّةِ الأفـريقـية لأنْ تنال حظّـها في رئاسـة الجمعـية العامــة، فإنّ تدرّجَ السّفيرِ/ المندوب الدائم السوداني عمر عديل، الذي انتُخب نائبــاً لرئيس الجمعـية العامة في دورتها عـام 1962، ثمّ رئيساً للجنة السياسية الأولى في الجمعية العامّـة في دورة 1963، ثمّ ترشـيحه لرئاسـة الجمعـية العامّـة في دورتها التاســعة عشــرة عام 1964، فقـد كان ذلك تدرّجـاً طبيـعـياً يؤهِّل صاحـبـه للإرتقـاءِ ليشغل ذلـك المنصب في تلـك الدورة عن جـدارة. كان هـو الأوفـر حظاً للفـوز بالمنصب، وقد نافسـه عليه منــدوبا غـانـا وليـبـيريا، وكان التقليد أن يتوافق منـدوبو المجموعة الأفريقية على مرشّح واحد، ولكن الأفارقة لم يسلموا آنذاك من تحريضٍ يضغط عليهم من حائكِي الخطط السوداء. لم يكسب السـفير عـديـل رضـا المؤثّرين من بعض أعضاء مجلـس الأمــن، دائمي العضوية، خصوصاً ممثل الولايات المتحدة، فأحسّ أن ترشيحه لرئاسة الجمعية العامة لن يمرّ بيســر، ولم يدُر في خلـده أنّ الخـطط السّـوداء يمكن أن تصل إلى مستوىً يسـتهدف إلى اغتـيال شخصيته اغتيالاً معـنـوياً.
لعبت المخابرات الأميركية دورها لقطع الطـريق على ترشــيح الســفير عـديل ليـرأس الجمعية العامة في دورتها عام 1964. إذ عملت المخابرات الأميركية بما عرف عنها من أســاليب شريرة ومكائد، لاغتيال شخصية السـفير عـديل، فاختلـقـوا قضية أخلاقية، زعموا أنه تورّط فيها. ومع سُـخف الاتهـام، وإغلاق المحكمة الأميركية ملفّ القضية، لم ينته التآمر، بل سعى لأن يصل تشويه سمعة الرجل، بأســلوب خفي، إلى قـيادة وزارة الخارجية الســودانية. من مساوئ المصائب أن يُغتال الرئيس الأميركي، جـون كينـيدي، في أكتوبر/ تشرين الأول ذلك العام قبل شهر من موعد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فتأجلت إلى ديسمبر ذلك العام، ما أتاح مزيداً من الوقت لتمرير الخطة السوداء: مؤامرة إقصــاء السفير عديل وإلغاء ترشيحه لمنصب رئاســة الجمعـية العـامـة.
وكما هو متوقع للخطة السوداء، فقـد تواصلت حياكة المؤامرة المخابراتية الأجنبية، لتكتمل فصولها بأيـدي الســودانيين مـن زملاء السـفير عـديـل في قيادة وزارة الخارجية الســـودانية، فينهـون مهمـته ويطردونه من منصبه منـدوباً للسودان في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1964 بدمٍ بارد، وهـو قاب أسبوعين أو أدنى من أن يكون أوّل أفريقي يتولى رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحـــدة في تاريخـها. أعـمَتْ مشاعر الحسد عيون زملائه، فما التفـتـوا إلى خسـارة تمثلت بضياع سانحة أتاحها التاريخ للسودان.
وهكذا اكتملت فصول الخطة السوداء، فأُقصي السفير المقـتدر عـمر عديل بقـرار من حكومة بلاده، وسـط دهشـة قيادات الأمــم المتحـــدة، وأولهم أميـنـها العــام يــو ثانـت الــذي أدرك أن ظلـماً لحـق بالســفير، فما كان له إلا أن يرد ّالجميـل لسـفيـر كَسَـرتْ بلاده أجنحـتــه، فقـرّر على الـفـور تعييـنه ممثـلاً له في مهـمّـة دبلوماسية تخصّ الأمانة العـامـة للأمم المتحــدة، ولكن حسرة الأمانة العامة كانت لا توصف لأفول واحدٍ من نجوم الأمم المتحدة، كان المستقبل أمامه ممتـداً، وهو في الأربعيـن من العمـر.
حفـلتْ حقـبة الحرب الباردة في العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية بمشاهد لخطط سـوداء جهنمية، ومواجهات بين قطبيـن تقاسما النفوذ في العالم، موسكو وواشنطن. ظلـتْ مخابراتهما تتصارعان، في تنافـسٍ شـرسٍ على موارد العالـم الثالث، ويتبـادلان الضربات في مواقع عديدة بلا هـوادة، لعلّ أكثـرها بروزاً ما حــدث في حرب كوريا وفي حادثة خليج الخنازير وفي حرب فيتنام، ثم في الكونغو والمعادن المكنوزة في باطن أرضه. لا أورد لك الأمثلة جميعها، وأكثرها مرعب.
أمّا السودان، فلن يبرأ بيسـرٍ من علـلٍ سبّبتْها خطط الأشرار السوداء. هـذه الحرب التي تدور رحاها في أرضه، أهـي من صنع أهـله أم هي بعض ما يحيـك الغرباء؟ بلــدٌ كانت كتائب جـنـده تشارك مع قوات أممية أرسلتها الأمم المتحدة، في أوّل مهـمة في تاريخها، إلى دولة هي الكونغو في سـتينيات القرن الماضي، فإذا بالمنظمة الأممية ترسل بعد 50 عاماً قواتٍ دولـية هجينة إلى أكبر إقليم في السـودان، دارفــور، تجاوز عــددها عشرين ألفاً، لوقف القـتال واحتواء ما يشبه إبادة جماعية تتولاها حكومته.
بلــدٌ كان مِن أغنى بلــدان القارّة الأفريقية بالموارد البكر، وأغناها بالثروة الحيوانية والـنفط والذهـب، فإذا هو، في ســنوات الألفـية الثالثة، يتذيل قائمة الدول الأفقر في العـالم. بلــدٌ كان من بيــن ســفرائه من كـاد أن يتـبـوأ قـيادة المنظـمة الأمميـة في ستينيات القرن الماضي، فإذا هو الآن منبـوذ بيـن أقرانه الأفـارقـة ومن المجتمع الدولي، ولا يجد مقعـداً في المنظمة الأفريقية، وقد كان يوماً من مؤسسيها وكُـتّـاب ميـثـاقـها. بـلــدٌ يترنّح ذبيحـاً في دم بنـيهِ، والمتفـرّجون على الـذّبـح مِن أطــراف المجتـمع الدولـي كثر، وفيهم، ويا للأسـى، بعض أهله، وعارفـو أفضاله، فأنكروها، وعـنـد السودانيـيــن مثـل فصيح بعامـيتـهــم: “دار أبيـك إنْ خربتْ شِــيْـل منـها شــليّة”، أي خُـذ قدر ما تستطيع ممّا ترك أبوك بعد هلاكه، فمن وضع خطّة سـوداء للســودان؟
جمال محمد إبراهيم – العربي الجديد