دارفور معزوفة أوتار أبناء النهر والبحر
دارفور معزوفة أوتار أبناء النهر والبحر
مقاربة بين زمنين :
زماننا والسلطان علي دينار
” أنا أزعم أن سبب الفوضى
في السودان هو جهل الناس بالتاريخ ”
– من أقوال الشاعر الناقد محمد المهدي المجذوب –
دارفور تعيش اليوم ، درجة مرعبة من الفظاعات ، والأفظع منه ثمة خدر شامل يمسنا نحن أبناءه !!
أليس ثمة ضرورة أن تؤدي فئة معينة دور المحفز في المجتمع الذي يزداد تكلسا يوما بعد يوم ؟
فما الذي يمكن أن نفعله جميعا ، أطباء ، مهندسين ، مزارعين ، أساتذة جامعات ، معلمين ، حقوقين ، خبازين ، كتابا مثقفين مبدعين وفنانين ، الخ .. لكي تعود دارفور كريمة عزيزة ، جديرة بالعيش ، ونعيد السماحة والطيبة لأهل هذا الوطن الحبيب اللعين .
وقولنا – هذا الوطن الحبيب اللعين – هو إقتباس حميم من كلمة قالها ” الطيب صالح ” .. في مقاربة مبدعة ، يحفر ويغربل في أزمان السودان ، الغابرة ، ويسأل كيف اندفقت سنواته الجميلة ، وأصواته العذبة بين الناس بالأمس القريب !
وكيف صرنا اليوم من كل الأصوات في العالم لا نعرف غير خشخشة الأكفان وأزيز المجنزرات ، ومعافرة الجراحات ، فيقتل بعضنا بعضاً لتطغى أحلام على أحلام .
الطيب صالح في بحثه عن سلام الأنفس في البلاد ، يقول :
” آه ، أي وطن رائع يمكن أن يكون هذا الوطن ،
لو صدق العزم وطابت النفوس ، وقل الكلام وزاد العمل “.
وفي قراءته النقدية لقصيدة ” الغربة ” للشاعر صلاح أحمد إبراهيم التي قال فيها :
” النيل بعيد
الناس عليهم كل جديد
وأنا وحدي …
منكسر الخاطر يوم العيد
تستهزئ بي أنوار الزينة والضوضاء
تستهزئ بي أفكاري المضطربة
وأنا وحدي ”
قال الطيب صالح :
” ونحن نعلم أن النيل بعيد ليس بمعنى المسافات المادية فقط ، ولكن بمعنى ” الحلم ” الذي ما يفتأ يزداد ” نؤياً وبعداً ” وكأنما للخطوب التي ألمت بنا منذ عهدنا بالاستقلال والأعوام التي مرت ، كل يجيئنا ببلوى جديدة تهتف بنا : ” النيل بعيد ، النيل بعيد ” ..
ومن عظائم الأمور أن أسلافنا الأماجد ، رغم بعد ذاك النهر عن ديارهم – بمقياس المسافات المادية – لكنه كان نهرا يتدفق بتواشيحه الخالدات – حسب الأستاذ حسين خوجلي – بأنبل المشاعر ، وجميل الإحترام إلى السلطان ” علي دينار ” وسلطنته الدافقة الوفاء لكل من توضأ بماء محبة السودان وأهله .
تشير كثير من المرويات الشعبية المأثورة ، كيف كان السوداني يفخر بأي سوداني يصيبه النجاح والتوفيق ، والتميز الباهر في مختلف أنشطة الحياة وتعددها ، ولا ينظر إليه إلا بمنظار الإخاء في الدين والوطن والإنسانية ، متجاوزا منظورات العرق والدم واللون والمنطقة الجغرافية . فلا فضل لأحد على أحد ، إلا بمقدار ما يمنحه من نبل إنسانيته للآخر .
بذلك المعنى كان أسلافنا يمشون بين الناس ، في أي جهة من جهات السودان كان ، يفرحون للناجح بنجاحه ، ولسمح النفس بسماحته ، وللوسيم بوسامته ،وللكريم بكرمه ، وللحكيم بحكمته ورشده بين الناس . يحبونه ويقتدون به ، دون أي عصبية قبائلية ، أو مناطقية .
ومن تلك النماذج في مسألة الحكم والحوكمة ما ذكره الدكتور إبراهيم القرشي وهو ناقد كاتب في التراث الشعبي ، متمكن في مسألة البعد السياسي في الثقافة والتراث ، قال ما نقتبس منه :
” فقد حكم المدير ” أحمد بيك أبوسن ” السودان من أدناه إلى أقصاه وكان اول مدير للخرطوم ، وعرف بملك البحور – الأنهار – السبعة ، كان محبوبا مطاعا ، لأنه كان حليما عاقلا حكيما منصفا ” .
بذلك المعنى جاءتنا السير والأخبار والسرديات الأدبية الرصينة التي خلدت عظماء السودان السابقين ، وأول أولئك العظماء هو السلطان ” علي دينار ” سلطان سلطنة دارفور ، الذي وجد من الشهرة والتعظيم من أهل السودان ما لم يضاهيه عليه أحد من السلاطين والملوك في السودان على تواتر الأزمان .
السلطان علي دينار ” أبو زكريا ” – أدَّاب العصاة زول زول – كما قال الشريف زين العابدين الهندي في ملحمته الشعرية – إنسربت إليه قوافل كرام الناس ونبلاء القبائل قادمة من كل فجاج السودان ، منهم علماء الدين والفقهاء ، شيوخ الخلاوى والتلاميذ . كما حفز عددا مقدرا من الحرفيين – أولاد البحر – والمعماريين والفلاحين من ريف مصر للإسهام في تطوير وترقية مجتمع سلطنة دارفور ، كل في مجال تخصصه .
دعى السلطان على دينار التجار من شمال السودان وشجعهم ليجلبوا إلى الفاشر خيرات الشمال من الثمرات والبقول ومستلزمات الحياة الحديثة .
فاتجه صوب الفاشر جموع الأدباء والشعراء وكل حكاء مبدع الحكايات رصين القول متقاطرين إلى جناب سلطنة دارفور التي أصبحت موطنا جاذبا للناس ، ولا غرو في ذلك ، إنه المزاج السوداني ، والوجدان الجمعي المشترك ، جميعهم توحدهم قيم المروءة والشهامة والفروسية ، وتهزهم إيقاعات ” الدلوكة ” و” الفرنقبية ” وتعلو بهاماتهم ضربات ” النقارة ”
ومن الأعلام حضر ، الشاعر ” السرورابي الجعلي ” أحمد حسب الرسول ، قاصدا رؤية السلطان ويكتب في كتاب تاريخ مجد عظماء السودان شهادته شعرا ، ناثرا من كنانة بلاد ” نهر النيل ” أنبل قيمهم المركوزة في صدورهم وهو الوفاء لأهل الوفاء ، وتقدير جليل الأفعال من الرجال .. فقال الجعلي شهادته :
” خيلك روَّقن لابسات دروع ومغاتي
من قومة الجهل راكب محفَّل وعاتي
سيد آدم رجال سيد الملوك و شراتي
إيدك وابل التّلوي البِصُب يوماتي ” ..
بذلك خطف الشاعر أحمد حسب الرسول ” السرورابي الجعلي ” لحظة من لحظات زمن الشموخ باحترافية وحذق ، موقعا اسمه في صفحات المحبين لصفاء الإنسان الحكيم العالي الهمة المتوهج الفكرة ، بحضوره الكائن في العالم ، إنه السلطان علي دينار حالة إنسانية سلطانية نادرة ، في فلسفة الأدارة والفكر السياسي ، مجاهدا منتميا أصيلا إلى عقيدة التوحيد ، الدين عند الله الإسلام . وكان يؤكد للناس في كل السودان ” نحن قبلتنا واحدة ” .. أي أهل ” قبلة ” واحدة ، نتوجه صوبها عند الصلاة وتوحدنا صفوفها . ذلك الإيمان جمع عنده قلوب الناس محبة ومناصرة .
ولما كان أبناء النيل – ولا يزالون – ذاك النهر يلهمهم حسن الخلق ونبل الطبع ، ويفخرون ويفاخرون بالكرم وشجاعة الفرسان ..
أنشد شاعرهم ” حسن النافعابي ” من شاعريته الوسيمة في مدح السلطان قائلا :
” الملهوف بجيك بتأمِّنو وبتحلو
واليابس الكلاله يا الخريف بِتبِلٍُو
وكت الشوف يشوف تحتو اب جديري بسِلُّو
والكازاك تعب بي إهانتو بتعجِّلو ” ..
و ” اب جديري ” و ” اب راكوبه ” أسماء لسيوف من سيوف السلطان علي دينار العالية الإشتهار ..
وعرف السلطان علي دينار بحبه للخيل وحسن عنايته بها ، اشتهرت خيوله بالأصالة ، وتلك الميزة والخصلة ضربت مسامع حواضر السودان وبواديه
حتى وصلت بادية البطانة وشاعرهم ” الحاردلو ” الذي قال :
” جاتني مدرِّجة البهم الصُّباه كبار
تتضَّلع تقول مكلوف علي دينار ”
أولئك أهل السودان في زمن الشموخ ، من بلاد البحر شرقا ، وأرض الجزيرة الخضراء والبطانة وسطا ، وموطن مجري نهر النيل الخالد بأجمل التواشيح شمالا ، إلى دارفور يدلقون مودة وحكمة ، تقريبا لمسافات الجغرافية مهما تباعدت الشقة .. ” فالمحبة تقرب الأبعدين ، و” القلوب لبعضها ” كما يقولون دائما ” وخير الناس الذي يعطي من نبل نفسه للآخرين .
نقرأ اليوم تاريخهم ، حتى أحيانا نخال ، جراء تلك الوقائع المذهلة في منطق تسلسلها ، أننا نقرأ تخييلا ، في حين أننا نقرأ تاريخا ، نقاربه بين واقعنا فنجد ” الفرق شاسع ” بين الزمنين .
المحبة طريقتهم وأسلوبهم في الحياة – كما قال الطيب صالح على لسان الطاهر ود الرواسي – أحد أشخاصه في قصة ” مريود ” – للراوي محيميد :
الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين إتنتين ، الصداقة والمحبة .. ما تقول لي حسب ولا نسب ولا مال .. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد يكون كسبان . وأنا المولى عزّ وجلّ أكرمني بالحيل . أنعم عليّ بدل النعمة نعمتين : صداقة محجوب ، وحب فاطمة بت جبر الدار “.
ويؤكد الطيب صالح ذات المعنى في مقال آخر :
” كانوا قانعين بما قسم الله لهم فيها ، وهو كثير . يزرعون النخل في ديار ” المحَسْ ” و” السكُّوتْ ” ويزرعون الحنطة والشعير في ديار البديريَّة والشايْقية والرّكابيين .
يزرعون الموز في كسلا ، والبرتقال والجوافة في شندي ، والذرة في أرض البُطانة . والقطن في أرض الجزيرة ، ويجنون الصمغ العربي من شجر الهشاب في كردفان .
يصيدون البقر الوحشي في جبل مرّة والظباء عند تخوم بحر الغزال . يأكلون سمك النيل الأبيض وسمك البحر الأحمر . يُخرجون الذهب من مكامنه في ” حلايِبْ ” وفي ” جبال شنْقُول “.
كانوا يتناشدون شعر ” الدوبيتْ ” على الآبار ، ويرقصون ” الدّليب ” في ضوء الأقمار ، ويرتلون القرآن في جوف الأسحار . ويستخفهم الطرب في حلقات مديح المصطفى المختار .
كانت البلاد تضج في العشيات بثغاء الشياه ، ورُغاء الإبل ، وصهيل الخيل ، وكان الرجل يمشي من ” أبو حمد ” إلى ” أبو دليق ” فلا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ” .
حقا ، فجميع أولئك القوم ، من النهر والبحر والغرابة ، تسكن محبتهم هذه البلاد ، في كل صورة من صور حيواتهم . حاكم ومحكوم ، أحبوا بعضهم بعضا ، عن معرفة أكيدة بحالهم وأحوالهم الخاصة ، فكانت المحبة في القلوب متقدة ، ولأن لعشق الأوطان مذاهب شتى ، إتخذوا من مسالك محبته طرائق عددا .
رأت كل ذات من تلك الذوات السودانية ، ذاتها في السلطان علي دينار ، يشبههم ويشبهونه ، فجعلوا منه ” أيقونة ” للذات السودانية المتعددة المشارب ، لم ينظروا إلى عنصر دمه وعرقه ولونه ، ولكن نظروا إلى روح الإنسانية المتشربة بطابعهم ومزاجهم السوداني الأصيل ، ناصرا لهم بلا تمييز .
ونذهب أيضا مذهب الدكتور إبراهيم القرشي بالقول عنه :
وكان الرجل مجاهدا صلبا وقف في وجه الإستعمار البريطاني وناصر دولة الخلافة العثمانية إلى أن استشهد في واقعة برنجية – 1916م – وكان حاكما قوميا يختار رجاله و وزراءه وأعوانه من جميع أنحاء السودان .. وكانت له مناقب ومفاخر لاتحصى منها كسوة الكعبة والمحمل السنوي من المؤن والطعام لأهل الحرمين .. ومنها ” الصُّرّة ” التي تجمع من أموال السلطان والوزراء والأعيان والرعية لأهل الحجاز ، وقد كانت له هيبة أمَّنت وفود الحجيج القادمة من غرب إفريقيا عابرة بلاد السودان إلى أرض الحجاز ، هذا سوى مآثره وكرمه الذائع .
يا قارئي يرعاك الله ، هل ترى من الضروري أن ننتظر منقذ ما ، يأتي ليفك عقدتنا اليوم ، وأن يحول بيننا وبين هذا الوضع الكارثي الذي نعيشه ؟؟ حلما للرجوع والأوبة .
وعلى أية حال كتبنا لنوقظ ، وتلك مهمتنا أن نجتاح الواقع وننخره من الداخل ، نجعله يحس بأن كيانه مهدد من ذاته أولا ، وذلك سيفقده إنسانيته ، والكينونة أثمن كنز يقتنيه المرء في وجوده ، حتى تعطي الآخرين من سماحة نفسك !!
علينا في دارفور أولا ، أن ندرك نقطة صراعنا مع ذاتنا حتى نعرف كيف نتقاسم أنفسنا مع الآخرين . بذلك فقط إلتمعت عظمة أسلافنا ، بمشاركة الآخر إيجابيا ، لا بكراهيته ومحاولة نفيه وإقصاءه ولا محاولة الإنفصال عنه .
هذا السودان لنا جميعا ، جميع أسلافنا ، سكبوا العرق والدم ، واسترخصوا أرواحهم في سبيل تكوينه وتشكيل هويته الظاهرة للناس ، جغرافية وتضاريسا وثقافة وحضارة . هو السودان ، السودان بكل ما فيه نحن وأولئك لنا جميعا ونحن له .
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله