رأي ومقالات

سهير عبد الرحيم: إلى أطفال الشهيد الرائد محمد سونا

□ هل شاهدت عزيزي القارئ فيديو وداع الشهيد الرائد محمد سونا لأطفاله؟
□ شاهده وتعالَ لنتحدث، شاهد الفيديو وتعالَ لنبكي!
شاهد الفيديو وتعالَ لنخجل أنا وأنت و نحني رؤوسنا أمام أولئك اليتامى.

□ الفيديو مدته نصف دقيقة، نعم ثلاثون ثانية كانت نصيب الأطفال الثلاثة من والدهم الشهيد، (ثلاثون ثانية ) ليقبَّلهم ويقول: (مع السلامة) في ذات الوقت، ثلاثون ثانية ليرفع يديه ملوحاً بالوداع، ثلاثون ثانية استودَعهم فيها اللهَ وحدَه ولا غيره.

□ طفلةٌ لم تتجاوز الخامسة، وصغيرٌ لم يُكمل الثالثة، ورضيعٌ في عمر الفطام.
□ الرضيعُ كان أكثرهم جَزَعاً؛ فلم يكتفِ بالقُبلة بل ركض حافي القدمين خلف والده في (حوش البيت ) وانتزع حضناً دافئاً وهو متشبثٌ بعنقه قبيل أن يُنْزله الأب بأمر المعركة، فيغادرهم ليستشهد بعدها بساعات فقط.
□ الآن؛ من منا سيقول لأولئك الصغار إن ذاك هو الوداع الأخير؟
من منا يمتلك الشجاعة وقوة العين ليقول لهم إن والدكم لن يعود أبداً ؟

ماذا عسانا نشرح ونوضح لأولئك الزغب الصغار؟ أطفال الشهيد الرائد محمد أحمد الدفعة 39 هيئة العمليات بجهاز المخابرات العامة.

□ هل تعرف عزيزي القارئ كلماتٍ في القاموس المحيط أو لسان العرب أو مختار الصِحاح مناسِبةً للمؤاساة؟

□ هل نقول لهم مثلاً: ذهب والدكم للقتال ليحرر أرضنا، ونعود إلى وطننا و بيوتنا آمنين بصحبة أطفالنا ولكن (معليش) والدكم لن يعود؟

□ أم نقول لهم: إن والدكم حين لم يمنحكم أكثر من نصف دقيقة وداع، كنا نحن نُمضي الساعات مع أطفالنا وهم يلعبون ويمرحون، وحين نجد أن برودة الغرفة عالية نغمُرهم بحضن طويل، حُضن لم يستطع والدكم منحه لكم، لقد آثر الوطن عليكم، كان أفضل منّا جميعاً استشهد قابضاً على الزناد في الخطوط الأمامية، وترك لنا نحن موت البعير الجبان.

□ هل نقول لهم: انشغلنا بتدفئة صغارنا بالأغطية الناعمة ونوسَّدهم المُتْرف من الأسرَّة، و نتكئ بجانبهم على حوض السباحة، أو في صالة التزلج، ويشتد قلقنا إن كح أحدهم عن مرض في حين لم يكن لوالدكم وقت كافٍ ليحضنكم؟ او ليتفقد ذاك (الزير) في فناء منزلكم إن كان به ماء؟ أو بسأل والدتكم هل نفد دواء الحمى خاصتكم؟

□ هل نقول لهم: إن والدهم لن يعود، و تركهم يتامى لمستقبل مجهول، في الوقت الذي نُخطط فيه لدراسة وتعليم أبنائنا في أفضل رياض الأطفال والمدارس الراقية والجامعات العالمية؟

□ حسنًا؛ هل نبيعُهم بعضَ الوعود و العشم والاحلام بأن الدولة ستتكفل بإطعامهم وسكنهم وتعليمهم؟
□ هل نقول لهم: ” إذا استبدَّ بكم الشوق يا صغار فطالعوا ألبوم الصور العائلية وصورة نعيه في (الصحف) أو شاهدوا معنا فيديو الوداع”؟

□ هل نقول لهم: ” يكفيكم فخراً أن والدكم مات مُقبلاً غير مُدْبر ، مات شهيداً مدافعاً عن الأرض والعرض ، قدم روحه لتعود أرواحنا؟ غادر بيتكم لنعود لبيوتنا؟ رحل عن وطنه لنعود نحن إلى وطننا؟ يتَّمكم ليعيش بقية الآباء ..؟”

□ حسناً؛ لنقول لهم: إن والدكم الآن في جنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين، وأن والدكم مع الصديقين والشهداء والصالحين، وأن والدكم تحفه دعوات كل الشرفاء السودانيين الحق بالرحمة والمغفرة والعتق من النار؟

□ اخبروهم بهذا فقط ولا تخبروهم بأن هنالك عملاء ومأجورين وأرزقية يقفون مع العدو الذي قتل والدهم، لا تزيدوا وجعهم ألماً، ويُتْمَهم شقاءً، ودموعهم حُرقةً، وطفولتهم بؤساً.

■خارج السور:
احتسب جهاز المخابرات العامة إلى جانب محمد سونا أحد عشر شهيداً من إخوته و مائة وعشرين جريحاً؛ كلُّ منهم له قصة وحياة وذكريات وأسرة وأطفال، وأب وأم وإخوة وأصدقاء و زملاء وعشيرة، تركوهم خلفهم ومضوا إلى الموت بعزيمة وشكيمة وقوة تُشابه الأسود، إنها الموؤودة؛ وبأي ذنب قتلت؟ إنها هيئة العمليات وكفى.