رأي ومقالات

🔴 الحركة الإسلامية السودانية والإخوان المسلمين.. ما الفرق بينهم؟

🔴الإسلام منظومة قيمٍ يأتي التوحيد في أعلاها ، ولا يقف حدها الأدنى عند سلامة القلب ونقاء السريرة ، والإسلامي هو كلُّ من يقتصر فهمه للإسلام على مجموعة الشعائر وإنما يتعامل مع القرآن كمنهج للحياة بأسرِها لتكون صلاته ونُسُكه ومحياه ومماته لله ، واتخاذ القرآن برنامجاً للعمل يتَّسق في إيقاعه مع الكون وعجلة الزمن رحمةً للعالمين ، ولطالما كان الدين هو أساس الهوية السودانية وعماد أنظمة الحكم فيه على امتداد تاريخه ، والقوى السياسية الرئيسية في السودان بعد الاستقلال قد تأسست على قواعد دينية ثابتة .. ولاتزال ، والنزعة الدينية في السودانيين غالبة ولا تخطئها عين مراقب ، والسودانيون تشرَّبوا قِيم الإسلام حتى مشيش عِظامهم على مرِّ العصور وكرِّ الدهور حتى اندغمت هذه القِيَم في صميم صفاتهم الوراثية لدرجةٍ تميزوا بها بين الناس.

🔴نشأت جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام ١٩٢٨م كجماعةٍ دينيةٍ دعوية سياسية اجتماعية ، وكان تعاطي الجماعة مع السياسة مضطرباً -آنذاك- من حيث الفكرة والتنظيم والممارسة ، وهو ما ألقى بظلالٍ من الغموض والريبة على الجماعة وفكرها وظل بعض آثارها باقياً حتى اليوم ، ورغم أثر الجماعة الكبير على البيئة السياسية في مصر منذ أربعينات القرن الماضي عن طريق المد الدعوي والكسب الشعبي ، غير أنها لم تفلح في دخول البرلمان إلا في العام ١٩٧٩م حين فاز في الانتخابات أول نائبين للبرلمان في الجماعة.

🔴دخلت جماعة الإخوان المسلمين إلى السودان بشكلٍ تلقائيٍّ ودون تخطيطٍ مسبقٍ من الجماعة في مصر ، تماماً كما غيرها من الجماعات الدعوية أو الطرق الصوفية ، فتمدَّدت في المجتمع السوداني بشكلٍ غير منظم منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي كأشواقٍ وتعاليم ، ولم تكن آنذاك تحمل فِكراً يُذكر ، واكتسب العديد من النخب السودانية صفة الانتماء للجماعة مع احتفاظهم بانتماءاتهم الدينية أو الاجتماعية أو السياسية الأخرى دون أن يُنظر إلى ذلك على أنه تناقضٌ في التوجه باعتبار ما سبق أن ذكرناه من رسوخ الأساس الديني في مكونات المجتمع السياسي السوداني.

🔴الصحوة الإسلامية التي انبثقت في العالم الإسلامي أواخر القرن التاسع عشر وانتشرت في كل الدول الإسلامية لم يكن ثمرتها فقط جماعة الإخوان المسلمين في مصر ، وإنما تجسدت في أشكالٍ تنظيميةٍ متعددة كالمهدية في السودان ، والجماعة الإسلامية في باكستان ، والجماعة الإسلامية في بنغلاديش ، وجمعية الشباب المسلم في البوسنة والهرسك ، والدعوة الوهابية في السعودية ، ثم تقلَّبت بعدها هذه الصحوة في عددٍ من أشكال التنظيم السياسي ولا تزال تتطور إلى اليوم ، ولا شك أن هذه التنظيمات وغيرها قد تلاقحت تجاربها الفكرية والتنظيمية والحركية رغم اختلاف الجغرافيا السياسية لكلٍ منها إذ أنها جميعها تتلاقى في المشرب والجوهر والأشواق ، ولكن بقيت لكل واحدةٍ منها خصوصيتها لاختلاف المعطيات والتحديات والنطاق.

🔴باقتضابٍ غيرِ مُخل .. وأرجو أن يكون غير مُمِل .. سأحاول سرد المحطات الرئيسية التي مرَّت بها جماعة الإخوان المسلمين في السودان بالتزامن مع مراحل تطور التيار الإسلامي السوداني ، متناولاً بعض نقاط الالتقاء والمفارقة بينهما ، مع شئٍ من الرصد لأوجه الاختلاف والتباين في الفكر والتنظيم والممارسة والكسب والنظرة إلى الآخر وتطلُّع كلٍ منهما للمستقبل ، وليس من الأهداف انتقاد أو انتقاص تجربة الإخوان المسلمين التي يرميها معسكري الكفر والنفاق اليوم عن قوسٍ واحدة ويكفيها ذلك فخراً وطُهراً .. وإنما الهدف أن لا نبخس التجربة الإسلامية في السودان حقها بأن نصمت على من لا يراها إلا رديفاً تابعاً لغيرها ، وقد كانت هي الأقدم تفجُّراً ، والأعظم أثراً ، والأسرع تطوراً ، والأعلى كسباً ، والأقدر دائماً على التأقلم والمواكبة.

🔴عام ١٩٣٦م كان السيد عبدالله حمد تاجراً بسوق أمدرمان والأبيض ، وبحكم تجارته يتردد على مصر ، وقد كان الرجل ذا اهتمامٍ بالثقافة والدين كغالبية النخبة السودانية ، وقد أعجبته جريدة الإخوان المسلمين وموضوعاتها ، فحمله ذلك على زيارة مكتب الإرشاد العام بالقاهرة في إحدى ليالي أبريل ١٩٣٦م ، والتقى بالإمام حسن البنا وتفاكر معه حول نشر الدعوة في السودان ، أبدى استعداده لتوزيع ونشر مجلة الإخوان المسلمين ومنشوراتهم في السودان ، فرحب الإمام ومكتب الإرشاد بمبادرته الطيبة ، وتم اعتماده من الإمام حسن البنا مندوباً للتنظيم في السودان ، فكان أوَّلَ ناقلٍ لدعوة الجماعة إلى السودان ، وقد تأثر بمطبوعات الجماعة نخبةٌ لا بأس بها من المجتمع السوداني.

🔴عام ١٩٤٠م بايع السيد جمال الدين السنهوري الإمام حسن البنا في مصر ، وتم تكليفه مسئولاً عن قسم إفريقيا بمكتب الاتصال بالعالم الإسلامي في قيادة الحركة ، والسيد جمال من سناهير دنقلا ، وترجع جذوره إلى صعيد مصر التي درس فيها الحقوق بجامعة القاهرة ، وبعد انضمامه للتنظيم زار السودان في منتصف الأربعينات وكان برفقة المحامي المصري صلاح عبدالحافظ ، فوجدت دعوتهما استجابةً تكوَّن علي إثرها أول تنظيم للإخوان المسلمين في السودان برئاسة السيد إبراهيم المفتي ونائبه السيد بدوي مصطفي وسكرتيره العام الأستاذ علي طالب الله وضم السيد عوض عمر الإمام (أول قارئ للقرآن الكريم في الإذاعة وابن إمام مسجد أرباب العقائد وخليفته) والسيد حامد عمر الإمام (أشقاء السيد يس عمر الإمام الذي كان حينها طالباً شيوعياً في الثانوية القبطية بالمسالمة) ، ثم أن السيد جمال السنهوري طاب له المقام في مصر ، وانضوى في الطريقة البرهانية حتى أصبح شيخها في مصر ، وعمل مذيعاً في إذاعة صوت العرب من القاهرة وقد عيَّنه الرئيس جمال عبالناصر مديراً لها.

🔴الأستاذ علي طالب الله من مواليد مدينة القطينة وترجع أصوله إلى دنقلا ، وهو خريج قسم المحاسبة بكلية غردون التذكارية ١٩٣٠م ، وشارك الأستاذ أحمد خير المحامي في تأسيس مؤتمر الخريجين عام ١٩٣٨م ، وأسهم في تأسيس حركة الأشقاء ، وكان مُقرَّباً من الزعيم اسماعيل الأزهري ، وكان منزله بأمدرمان مقراً لطباعة المنشورات ضد الإنجليز ، وله مواقف نضالية ضد الاستعمار جعلته أحد السجناء السياسيين القلائل في زمن الاستعمار ، ورغم أنه كان من قادة الاتحاديين غير أنه كان قد بايع الإمام حسن البنا عام ١٩٤٥م ، وفي العام ١٩٤٨م أرسل له الإمام حسن البنا رسالةً رسميةً بتكليفه مراقباً عاماً للإخوان المسلمين في السودان ، ورغم أن الأستاذ صادق عبدالله عبدالماجد كان قد بايع الإمام حسن البنا عام ١٩٤٦م ، غير أن دوره في التنظيم جاء متأخراً لأنه إذ ذاك كان ما يزال طالباً في مصر التي درس بها الثانوية والجامعة ولم يعد إلى السودان إلا عام ١٩٥٤م.

🔴عام ١٩٤٧م كان السادة محمد يوسف محمد وبابكر كرار ويوسف حسن سعيد طلاباً بمدرسة حنتوب الثانوية ، فزارهم أستاذهم للغة الإنجليزية بالمرحلة الوسطى السيد الصائم محمد إبراهيم (خال الأستاذ أحمد عبدالرحمن) ، وطرح عليهم فكرة إنشاء تنظيم يناهض انتشار الشيوعية وسط الطلاب ، فأنشؤوا جمعيةً أدبيةً في حنتوب كان رئيسها السيد يوسف حسن سعيد ، وسكرتيرها السيد حسن عبدالله الترابي الذي كان قد التحق طالباً بحنتوب في ذلك العام ، وبدخولهم كلية غردون التذكارية عام ١٩٤٩م أسس السادة محمد يوسف محمد وبابكر كرار ويوسف حسن سعيد *حركة التحرير الإسلامي* كتنظيم طلابي يميل إلى السرية في العمل ، وكانت واجهته التنظيمية السياسية والعلنية خارج الجامعة هي جبهة الدستور الإسلامي.
▪️حركة التحرير الإسلامي يبدو من اسمها بواعث مناهضتها لتمدد الشيوعيين في الكلية *الحركة السودانية للتحرير الوطني* والتي تركز نشاطها وسط الطلاب في:
1️⃣نشر الإلحاد ومهاجمة القرآن.
2️⃣إنشاء بيئة صار الفساد الأخلاقي يُدافَع عنه فكرياً ، بحيث أصبحوا يستهزئون بالمصلين ، ويحتفون بشاربي الخمر.

3️⃣أيدوا تقسيم فلسطين وقيام إسرائيل باعتباره خط الحزب الشيوعي السوفياتي.
🔴مباشرةً بمجرد انبثاق حركة التحرير الإسلامي قامت الحركة السودانية للتحرير الوطني (الشيوعية) بمهاجمتها في صحيفتها الحائطية ، واستغلت الحرب التي أعلنها الإنجليز والملك على جماعة الإخوان في مصر واغتيالهم لزعيمها الإمام حسن البنا باتهام حركة التحرير الإسلامي بأنها هي الإخوان المسلمين ، وذلك على أمل الوقيعة بينها وبين السلطات الاستعمارية وإدارة الكلية ، وتوظيف الدعاية السوداء التي كان يقودها الإعلام المصري لتخدم خط الشيوعيين في صناعة فوبيا شعبية حول حركة التحرير الإسلامي وجبهة الدستور الإسلامي *(ومن سخريات القدر سقوط الشيوعية في العالم كله وبقاء شيوعيين السودان في ذات غيهب الأربعينات بكلما فيه من تكتيكات بالية لم يزدها الزمان إلا انحطاطاً حتى بلغت مستوى كل كوز ندوسو دوس)* ، وكانت حركة التحرير الإسلامي آنذاك تنفي بشدة أي صلةٍ لها بالإخوان المسلمين ، وتدعو إلى الاشتراكية الإسلامية ، وكانت أهدافها المعلنة آنذاك:
1️⃣مناهضة الاستعمار.
2️⃣الدعوة للدستور الإسلامي.
3️⃣مقارعة المد الشيوعي وسط الطلاب.

🔴عام ١٩٥٢م دار حوارٌ بين حركة التحرير الإسلامي بقيادة السيد بابكر كرار النور ، وتنظيم الإخوان المسلمين في السودان بقيادة الأستاذ علي طالب الله بهدف الاندماج ، ولكن اللقاء انتهى بدون اتفاق ، حيث أصرَّت الحركة على ضرورة الاحتفاظ باستقلالها وسودانيتها ، ولكن استمرار التنسيق مع مجموعة الأستاذ علي طالب الله سبَّب التباساً للكثيرين من جانب ، واختراقاً لحركة التحرير الإسلامي من جانبٍ آخر ، وقاد هذا بدوره إلى استقالة زعيم حركة التحرير الإسلامي السيد بابكر كرار
النور في أواخر عام ١٩٥٢ احتجاجاً على هذا التقارب من الإخوان ، ولكن في العام ١٩٥٣م أُعيد السيد بابكر كرار النور زعيماً للحركة مع التأكيد على رفض تغيير اسم الحركة ، وتم فصل أعضاء القيادة المتعاطفين مع الإخوان.

🔴عام ١٩٥٤م وقع انقلابٌ تنظيميٌّ داخل حركة التحرير الإسلامي قاده ٤٠ عضواً من عناصر الإخوان المسلمين (مؤتمر العيد) ، فأقروا رسمياً تبعية الحركة لتنظيم الإخوان المسلمين ، ولم يخلو القرار من تعاطفٍ ونُصرةٍ للتنظيم الذي كان يتعرض لأبشع أنواع التنكيل في مصر مع ما عُرِف من سرعة استجابة السودانيين للاستفزاز واشمئزازهم من الاستكبار واستحقار المُستَضعفين ، فكان موقفهم أشبه بإسلام حمزة بن عبدالمطلب ، وحينها تم تكليف السيد الرشيد الطاهر بكر مراقباً عاماً ، وتقرر اختيار السيد محمد خير عبد القادر أميناً عاماً ، وقاد ذلك الى انشقاق الحركة إلى نصفين ، فخرجت مجموعة السيد بابكر كرار النور ، وأعلنت انفصالها وأطلقت على نفسها اسم *الجماعة الإسلامية* ، ثم لم تلبث حتى تحوَّلت فيما بعد إلى *الحزب الاشتراكي الإسلامي.*

🔴مجموعة الإخوان المسلمين بقيادة الأستاذ علي طالب الله بدورها لم تعترف بشرعية قيادة السيد الرشيد الطاهر بكر كمراقبٍ عام ، وتمسَّك الأستاذ علي طالب الله (لم تتم دعوته لمؤتمر العيد) بشرعية قيادته للحركة بموجب تكليف الإمام حسن البنا له ، وتم تسوية الخلافات بصورة هشَّة بين المجموعتين بوساطة مصرية من قيادة التنظيم عام ١٩٥٥م .. فأبقت الوساطة على السيد الرشيد الطاهر بكر مراقباً عاماً ، واستبدال بقية وظائف الحزب بعناصر من مجموعة الأستاذ علي طالب الله الذي اعتزل العمل التنظيمي وحافظ على علاقته الطيبه بالجميع ، وركَّز على تأسيس وإدارة مكتب مقاطعة إسرائيل بوزارة الخارجية ، ولكن رغم ذلك لم يستقر التنظيم الجديد للإخوان المسلمين.

🔴عام ١٩٥٩م أُلقي القبض على السيد الرشيد الطاهر بكر بتهمة تدبير محاولة انقلابية ضد حكومة الفريق إبراهيم عبود ، فحدث اضطرابٌ كبيرٌ داخل الحركة بسبب أن السيد الرشيد الطاهر بكر لم يُبلِغ الحركة بنشاطه ، كما أنه شارك في عمله ذاك مع شيوعيين ، وزاد من اضطراب الحركة عام ١٩٦١م حين أقام تنظيم الإخوان المسلمين في مصر مكتباً للتنسيق في جدة ، وطُلِب من إخوان السودان الانضمام إليه ، فأيقظ ذلك ما كان كامِناً من رفض ارتباط الحركة بتنظيم الإخوان المسلمين في مصر أو في جدة ، وانقطعت الصلة بينهما تماماً ، ودخلت الحركة والتنظيم في سُباتٍ عميقٍ لعدة سنوات ، وتفككت بنيته التنظيمية ، واقتصر على مجاهدات أفراده من خلال أطُرٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ أخرى حتى عام ١٩٦٤م ليبدء منه ميلادٌ جديد وإشراقٌ فريد وعنفوانٌ شديد.

🔴عام ١٩٦٤م عاد د. حسن عبدالله الترابي من الخارج موفور الرؤية والنشاط ، فالتفَّ حوله شتات الإسلاميين من حركة التحرير الإسلامي والحزب الاشتراكي الإسلامي وتنظيم الإخوان المسلمين ، وتحدث في الندوة الشهيرة بالميدان الشرقي لجامعة الخرطوم ، وكانت الشرارة التي قاد بها ثورة أكتوبر ١٩٦٤م ، ونجحت الثورة في إنهاء حكم الفريق إبراهيم عبود ، فسارع الترابي بطرح فكرة تأسيس جبهةٍ عريضةٍ تتجاوز عضوية حركة التحرير الإسلامي والحزب الاشتراكي الإسلامي وتنظيم الإخوان المسلمين ، فقامت بذلك *جبهة الميثاق الإسلامي* التي ضمَّت السلفيين والتيجانية وغيرهم إلى جانب التنظيمات الثلاثة سالفة الذكر ، بالإضافة إلى شخصياتٍ وطنية وحركاتٍ أخرى تُؤيِّد البرنامج المشترك الداعي إلى:
1️⃣تطبيق الشريعة الإسلامية.
2️⃣الحفاظ على الحريات.
3️⃣العدالة الاجتماعية.

🔴فازت جبهة الميثاق بسبعة مقاعد برلمانية في انتخابات عام ١٩٦٥م ، غير أن أثرها في البرلمان والحياة السياسية كان أكبر بكثير من حجمها البرلماني ، وما ذلك إلا لفاعلية كوادرها من جانب ، ومن جانبٍ آخر فيمكن وصف غالبية عضوية الأحزاب الطائفية بالإسلاميين ، وقد أجاز ذلك البرلمان في نوفمبر ١٩٦٥م التعديل الخاص بحل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان وتحريم الشيوعية ومحاكمة كل من يُتهم باعتناقها ، وذلك على إثر ما جرى بمعهد المعلمين ، كما تزايد الدعم البرلماني للدستور الإسلامي من خلال تكوين الهيئة الوطنية للدستور الاسلامي الكامل في منتصف مايو ١٩٦٧م (غير برلمانية) ، والتي ناصرتها أغلبية مقدرة داخل البرلمان المضطرب بالصراع بين الأحزاب الطائفية حينها حتى داهم البلاد إنقلاب الشيوعيين في مايو ١٩٦٩م قاطعاً الطريق على ما عُرِف بدستور ١٩٦٨م.

🔴عام ١٩٦٨م برز خلافٌ داخل جبهة الميثاق بين تيارين ، الأول عُرِف بتيار التربية وكان أقرب إلى نهج الإخوان المسلمين التقليدي الذي يدعو إلى التركيز على تزكية الأعضاء ووضع شروط قاسية للعضوية ، وكان يقود هذا التيار السيد محمد صالح عمر ، وبين التيار السياسي الذي يميل إلى الاستكثار من الأنصار ويركز على النتائج ، وكان يقوده د.
حسن عبدالله الترابي ، وقد تصاعدت الخلافات حتى بلغت مرحلة الانشقاق بعد فشل المدرسة التقليدية في إزاحة د. حسن عبدالله الترابي من القيادة في مؤتمرٍ عُقِد في أبريل عام ١٩٦٩م ، ولكن الانشقاق تأجَّل بسبب قيام انقلاب مايو عام ١٩٦٩م ، والذي جاء بحكومةٍ يساريةٍ معاديةٍ للإسلاميين زجَّت بهم وبغيرهم في السجون ، ودخلوا معها في معارك طويلة استمرت حتى عام ١٩٧٧م.

🔴عام ١٩٧٣م أنشأ تنظيم الإخوان المسلمين في مصر التنظيم الدولي ، وتقدّم بدعوةٍ لضم جبهة الميثاق لعضوية التنظيم ، فتجدد الرفض واعترضت جبهة الميثاق على تركيبته وصلاحياته ، واقترحت إنشاء جهاز تنسيقٍ فضفاض بديلاً عن التنظيم الدولي ، بحيث يسمح التنسيق لكل حركةٍ باستقلالها الداخلي ، وبالطبع لم يُعجب المقترح جماعة التنظيم الدولي ، وانشق عن جبهة الميثاق مجموعة السيد محمد صالح عمر والذي كان قد استشهد في الجزيرة أبا مع الإمام الهادي ، واحتضن التنظيم الدولي الجناح المنشق تحت قيادة السيد صادق عبد الله عبدالماجد ، وبدأت منذ تلك الحادثة مآخذ تنظيم الإخوان المسلمين على الحركة الإسلامية في السودان والتي جنحت أحياناً إلى الكيد والعداء من جانب تنظيم الإخوان المسلمين على ما درجوا بتسميته بجماعة الترابي.

🔴عام ١٩٧٧م توجه الرئيس جعفر محمد نميري إلى المصالحة مع الجبهة الوطنية التي كانت تضم الأحزاب الثلاثة الكبرى (الأمة ، والاتحادي ، وجبهة الميثاق) وهي فترةٌ حققت فيها الحركة الإسلامية مكاسب كبيرة باكتساب الخبرة في ممارسة الحكم ، وإعادة البناء التنظيمي ، وتمددت في الانتشار الجماهيري وغير ذلك ، وساهم انقلاب النميري على الحركة الإسلامية في تأجيج جذوة الاحتجاجات التي عصفت بحكمه في السادس من أبريل ١٩٨٥م ، وهو ذات العام الذي برزت فيه الحركة الإسلامية بميلادٍ جديد ونَظرٍ بعيد باسم *الجبهة الإسلامية القومية* لتحصد ٥٤ مقعداً نيابياً في برلمان ١٩٨٦م.

🔴عام ١٩٨٧م استضافت الجبهة الإسلامية القومية مؤتمراً للحركات الإسلامية على مستوى العالم ، بينما كان التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يقتصر على تنظيمات الإخوان المسلمين في الدول العربية فقط ، وكانت فكرة المؤتمر هي تكوين جهاز تنسيقي بين كل التنظيمات الإسلامية في العالم ، فضمَّ المؤتمر إلى جانب الوفود العربية وفوداً من تركيا وماليزيا وباكستان وغيرها ، وشنَّ التنظيم الدولي للإخوان المسلمين حملةً إعلاميةً عنيفةً على د. حسن عبدالله الترابي والجبهة الإسلامية القومية واصفاً ما تم بأنه تنظيم الضِّرار ، وقد انعقد ذات المؤتمر مجدداً في الخرطوم عامي ١٩٩١م و ١٩٩٣م باسم *المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي* ، وشاركت فيه وفودٌ من ٤٥ دولة ، وضم الحركات الإسلامية من البوسنة إلى أفغانستان وماليزيا ، وممثلي المنظمات الإسلامية في الغرب ومجموعاتٌ راديكاليةٌ عربيةٌ مثل حزب البعث العراقي والحزب الاشتراكي (الشيوعي) اليمني وبعض المنظمات الفلسطينية اليسارية ، وشارك فيه تنظيم الإخوان المسلمين المصري وفروعه في الدول الأخرى.

🔴الإسلام هو الرسالة الخاتمة والشاملة والكاملة والخالدة والغالبة ، وقد جاء مُقوِّماً لشتى مناحي الحياة ، وهادياً لمختلف ضروبها ، ومنهاجاً للفرد والمجتمع والدولة والناس ، وكل ذلك رحمةً للعالمين ، وتذكرةً لهم يتجنبون بها الشقاء في الدنيا والآخرة ، ومن ظنَّ أن الإسلام لا علاقة له بالسياسة فهو إما غير عليمٍ بالإسلام والقرآن أو زهيد معرفةٍ بالسياسة نفسها ، وقد يفشل البعض في اقتباس منهج القرآن في السياسة والحكم ، وقد يُسيئ البعض تطبيق ذلك المنهج ، والواجب هو استدامة المراجعة والتصويب والتسديد ، وليس جحود المنهج القرآني نفسه بمصطلح الإسلام السياسي ، وذلك يحدث في شتى مدارس الفكر والسياسة بما فيها الماركسية أو الاشتراكية أو العلمانية أو الليبرالية ، ولكن المشكلة لا تكمُن في الجهل وحده بقدر ما تكمُن في جحود المنهج كله بتبعيضه إلى إسلام سياسي وإسلام غير سياسي ، وإسلام اقتصادي وآخر غير اقتصادي ، والتدثُّر لذلك بأخطاء الاقتباس والممارسة.

🔴استعر تلبيس إبليس قدحاً في الحركة الإسلامية منذ فجر ميلادها ، وتمركز جُلُّ الإلباس بأن الحركة الإسلامية ما هي إلا فرعٌ من فروع جماعة الإخوان المسلمين ، وليس دحض ذلك من باب التبرُّء من الإخوان المسلمين ، ولكن يجب أن لا نبخس الحركة الإسلامية السودانية ابتدارها وحقها وكسبها ، فالحقُّ أحق أن يُتَّبع ، وما سردناه فيه كفايةٌ للمُنصِف .. وبعدُ .. فمنهج الحركة الإسلامية يرى في تنوع وتعدد الجماعات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية مصدر ثراءٍ وقوةٍ للإسلام يستلزم التعاضد والتناصر بينها ، وهو مبدءٌ ظلَّت تعمل به منذ نشأتها ، والحركة الإسلامية تُعظِّم التنافس بين هذه التنظيمات ابتغاء مرضات الله وخدمة عباده ، ونختصر أدناه .. بعض أوجه التمايز بين الحركة الإسلامية السودانية وتنظيم الإخوان المسلمين المصري منه والدولي:

🔺الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين في مصر كانوا من الفئة العمالية وذوي حظٍ قليلٍ من التعليم والثقافة ، وعاطفةٍ مشبوبةٍ للتديُّن ، وُلِدُوا وعاشوا وماتوا في مصر ، وما عرفوا غيرها ، ولازال ذلك يُؤثِّر على تواضع الثراء الفكري لجماعة الإخوان المسلمين ، وموضوعية تعاملها مع تطورات العصر ، ومحدودية تصوُّراتها للمستقبل ، وعاطفية انفعالاتها مع المتغيرات ، بينما أسَّس الحركة الإسلامية في السودان نُخبةٌ من المثقفين ، وبلغ غالبيتهم ذروة الدراسات العليا في أرقى الجامعات العالمية ، وقد انسحب على ذلك اتساع زاوية الرؤية والفكر للحركة الإسلامية ، وكان له أثره الواضح في سرعة تحول الحركة إلى تيارٍ وطنيٍّ جماهيري واسع ، ومصدر إلهامٍ وتأثيرٍ على غيرها من التنظيمات الإسلامية حول العالم.

🔺بدأت جماعة الإخوان المسلمين في مصر كنظامٍ تربويٍّ يُكرّس طاقته على الإلتزام الشعائري والطقوسي ، بينما وُلِدت الحركة الإسلامية من رحِم الصراع الفكري العالمي ، وشبَّت في معامع اصطلام التيارات المتباينة من ماركسية واشتراكية ورأسمالية وليبرالية بجانب الطائفية ، وتفاعلت مع بيئةٍ ثريَّة الأفكار والتجارب ، وتصالحت مع مجتمعٍ أصيلٍ في التسامح وقبول الآخر وتفهُّم الاختلاف ، وقد أسهم كل ذلك في اتساع زاوية النظر عندها ، وأضاف إلى عُمق المرامي في أهدافها ، فاتَّسمت بالثبات على المبادئ والبراغماتية في الوسائل والأساليب.

🔺ساهمت جماعة الإخوان المسلمين في تكريس حالة التكلُّس الفكري للإسلام من حيث اعتمادها المذهب الأشعري السُّنِّي ، وتبنِّيها لذات المدرسة الأصولية التراثية وِفق فكرة الفرقة الناجية ، بينما تجاوزت الحركة الإسلامية المذهبيات والطوائف عابرةً لفضاءٍ أكثر رحابةً في الفكر الإسلامي .. فجمعت في قيادتها وعضويتها السَّلفي والصُّوفي ، والسُّنِّي والشِّيعي والمُعتزلي ، والأُصولي والحداثي ، وغيرهم ، وربما تجدُر الإشارة إلى أنَّ من ظنَّ أنَّ الإسلام يمكن أن يَعُمَّ الدنيا بمذهبٍ واحدٍ فقد جافى المنطق ، ومن نسبَ الحقَّ لجماعةٍ إسلاميةٍ واحدةٍ وقدح فيما سواها فقد ضيَّق واسعاً ، ومن يرى أن ريادة المسلمين للعالم يمكن أن تتم دون توحيد جميع المسلمين حول رؤيةٍ وبرنامج عملٍ لا يغرق في التفاصيل فقد أبعد النجعة في الخيال … وهنا يأتي تميُّز وتفرُّد وسبق الحركة الإسلامية السودانية والذي أثبتت الأيام نجاعته.

🔺حافظت جماعة الاخوان المسلمين على أن تبقى تنظيماً صفوياً طوباويَّاً كلاسيكياً يستقطب لعضويته صفوة الإسلاميين الملتزمين شعائرياً ، بينما انتهجت الحركة الإسلامية بذكاءٍ ومنذ ميلادها منهجين متوازيين لنشر الدعوة والاستقطاب .. يعمَدُ أحدهما إلى استهداف العناصر والنُّخب المتميزة فكان من أوائل الذين جرى ضمهم للحركة السادة الأديب الكبير الطيب صالح ، ومحمد خير عبد القادر ، وأحمد محمد بابكر ، والسيدات فاطمة طالب إسماعيل وسعاد الفاتح وغيرهم .. وينتهج الثاني ديناميكيةً تستقطب الجماعات والمجتمعات وتصنع تياراً جماهيرياً واسعاً تلتقي أشواقه مع أهداف الحركة.

🔺ظلت جماعة الإخوان المسلمين على هامش الحياة السياسية في مصر لأكثر من خمسة عقودٍ عانت فيها من التنكيل والاستضعاف ، فانعكس ذلك على كثيرٍ من فكرها وأدبياتها ، بينما انخرطت الحركة الإسلامية في الحياة السياسية منذ بواكير انبثاقها ، وانعكس ذلك على فكرها وممارستها وأدبياتها ، بل إن تجربتها الطويلة والمتنوعة (مناهضة الاستعمار ، المعارضة المساندة للحكومات الوطنية ، الخبرة البرلمانية الطويلة ، العمل المسلح مع القوى السياسية الأخرى ، تجربة الحكم في الفترة الانتقالية بعد ثورة أكتوبر ، والحُكم تحالفاً مع نميري ، والحكم تآلفاً مع حزب الأمة خلال الديمقراطية الثالثة ، الحكم المنفرد أو المشترك ولكن بنفوذٍ أكبر خلال فترة الانقاذ) أكسبت الحركة الإسلامية ثراءً يسبق تجربة الإخوان المسلمين وكل التنظيمات الإسلامية الأخرى في العالم بسنواتٍ ضوئية.

🔺تنظيم الإخوان المسلمين انتهج أسلوباً بطرياركياً (أبويَّاً) بوجود مرشدٍ عام على المستوى الوطني ، ومن خلال التنظيم الدولي الذي يشرف على فروع التنظيم في الدول العربية التي امتدت دعوة الجماعة إليها ، وهو ما رفضه السودانيون عدا جماعةٍ صغيرةٍ لازالت تحمل اسم التنظيم وتعمل بمقتضى منهجيته (رغم أنها مؤخراً باتت أكثر استقلالاً عما سبق) ، بينما الحركة الإسلامية رفضت تلك الوصاية عليها ، ولم تمارسها أبداً مع عضويتها ، وعلاوةً على خصوصية وشمولية رؤيتها الوطنية .. فقد كان لها دائماً رؤيتها المستقلة على الصعيد العالمي ، فالمؤتمرات العالمية للحركات والتنظيمات والأحزاب الإسلامية وغير الاسلامية التي ابتدرتها واستضافتها ..

قد انبنت في علاقتها مع الآخر على مشاطرة الرؤى ومشاركة الأهداف والتناصر حول برامج عمل ، ولم تعمل قط على خلق نظامٍ هرميٍّ تترأس بنيته الفكرية أو التنفيذية ، وهو ما جعل لها أثراً هائلاً في الحراك الإسلامي العالمي بدرجة أن تنظيم الإخوان المسلمين نفسه انضوى فيه خوفاً من أن يعزل نفسه تماماً وللأبد ، وهذا بابٌ ربما نطرقه بكتابةٍ يوماً إن أذِن الله وطالت بنا حياة ، وبلغ منا ترف الفكر ما يعين على ذلك.

🔺تنظيم الإخوان المسلمين وبسبب صفويته التي تميل للطهرانية الاستعلائية فإنه لم يتحالف إلا برلمانياً وبشكلٍ هش مع السلفية التي نكصت عنه في أول منعطف قبل إكمال عامٍ واحد ، بينما نظرة الحركة الإسلامية تجاه الآخر الوطني مكَّنتها من القتال مع الأحزاب الطائفية في الجبهة الوطنية ثمان سنوات ، والتحالف مع أقاصي اليسار في قوى الإجماع الوطني حوالي عشر سنوات ، والاتفاق والحكم مناصفةً مع الحركة الشعبية لخمس سنوات ، والاشتراك مع الحركات المسلحة والأحزاب الأخرى في حكومة الوحدة الوطنية بضعة عشر عاماً ، وقيادة أضخم حوار وطني في البلاد استمر ثلاث سنوات ، وخرج بما يزيد عن ٩٣٠ توصية يكاد يكون مستحيلاً المزايدة عليها مهما ادَّعى من لم يُكلِّفوا أنفسهم عناء قراءة هذه التوصيات.

🔴مهما اختلف الناس في تجربة الحركة الإسلامية في السودان ، غير أنها تبقى بحساب الأرقام .. هي الأسخى تضحيةً بالنفس والمال والجاه والولد ، والأضخم إنجازاً على مستوى الحكم في البلد ، والأوسع تشاركاً للسلطة مع الآخر ، والأجرأ نقداً ذاتياً لتجربتها أثناء حُكمها ، والأرسخ صموداً أمام الكيد والاستهداف الدولي والإقليمي ، ورغم أنها قد خسرت إحدى معاركها في ٢٠١٩م ، غير أنها موقنةٌ بانتصارها في حربها على الباطل الذي فضح نفسه بنفسه ، وعنقاء الحركة الإسلامية المنبعثة من رماد محرقتها ترى الفجر يرمقها من قريبٍ يظنه البعض بعيداً.

اللواء (م) مازن محمد إسماعيل