يتيم في الستين: لا رجل يشبه ابي
يتيم في الستين: لا رجل يشبه ابي (١)
صديق محمد عثمان سيداحمد
– كنت وانا بعد صغير شديد الاحتفاء بخط يد والدي خصوصا إذا استدعاه الأمر كتابة مذكرة إلى مدرستي لاي سبب من الاسباب، كنت احمل مذكرته التي يطبقها بعناية تليق بخطه الأنيق واتشوق لمشاهدة الدهشة وهي ترتسم على وجه اساتذتي وهم يتأملون خط يده وكلماته البسيطة، كان الفتى الصغير داخلي يهتف : نعم أنا ابن هذا العامل البسيط سكرتير نقابة عمال سكك حديد الجزيرة ، سكرتير مجلس ادارة نادي العمال والموظفين والمشرف على فريق كرة القدم في النادي والذي يكتب بهذا الخط الأنيق وهذا الأسلوب الجميل.
– وفي ميعة الصبا الباكر وأنا أدلف إلى مرحلة المراهقة بكل ما يصاحبها من تطورات جسدية في جسم الفتى من خشونة الصوت إلى بلوغ مقاس الحذاء إلى ( نمرة عشرة) حدث ذات مساء أن ازداد طولي مترا كاملا حينما انتهيت للتو من لعب مبارزة في تنس الطاولة او البيك بونغ امام والدي خرجت منها مهزوما مثل زملائي الآخرين الذين نافسوا ضده. كان يمسك المضرب كما يمسك كاوية اللحام وعندما يضرب الكرة إذا كان هو رامي (السيرف) او كان يصد ضربة خصمه كان يفعل ذلك بحزم مع استغلال كامل للحظة التي تلامس فيها الكرة مضربه فقد أتقن عملية السيطرة والفهم العميق للحظة التي تضرب فيه الكرة مضربه وكأنه كان يستطيع حساب مدتها وتقسيمها إلى مراحل مستفيدا من كل جزء من الثانية فيها فكأنه يبرم حبلا طويلا وليس لحظة اصطدام الكرة فما بين ارتطامها بمضربه حتى خروجها من عنده وعودتها إلى خصمه كان الكرة التي وصلت عنده في خط مستقيم وجسدها مستقر وهي تطير كتلة واحدة صماء ليس فيها حياة، تخرج من مضربه وقد امتلأت بالحياة فزادت سرعتها اضعافا ودبت فيها الحركة فاصبحت كالدرويش في حلبة ذكر او لاعبة باليه تتزحلج على الجليد تدور حول نفسها بنفس السرعة التي تسير بها فاذا ارتطمت بسطح الطاولة غيرت مسارها ١٨٠ درجة وعادت مرة اخرى نحوه واذا كان خصمه بطيء الحركة فانه سيجد صعوبة بالغة في ادراك هذه اللحظة وملاحقة الكرة قبل ان تعبر الشبكة إلى النصف الخاص بوالدي.
– ورغم انه كان فخورا بتفوقي الاكاديمي في المدرسة إلا انه كان يعبر عن ذلك بطريقته الخاصة جدا. طلبت منه وانا انتقل من المرحلة المتوسطة إلى المرحلة الثانوية ان يتدخل لنقلي من مدرسة المدينة عرب الثانوية الداخلية التي تم توزيعي اليها إلى مدرسة مدني او مدني السني وربما كان يمكنه ان يستخدم علاقاته النقابية حينها ولكنه رفض، فحاولت أن اعبر عن احتجاجي بطريقة اتفقنا عليها وانا وبقية زملائي الآخرين. كانت ادارة التعليم المحلية قد قررت محاولة تحويل مدرسة المدينة عرب الثانوية إلى مدرسة نموذجية اخرى وبما ان المدرسة كانت داخلية وتقع في منطقة وسطى مثالية ولكنها كانت متأخرة جدا في نتايجها وتعاني سوء الادارة والإهمال. فقررت ادارة التعليم محاولة توزيع مجموعة كبيرة من الطلاب النابهين من مراكز امتحانات المرحلة المتوسطة بحيث تتكون في مدرسة المدينة عرب فصول جيدة ومن ثم حاولت تغيير طاقم التدريس والادارة ودعم المدرسة ماديا. غني عن القول ان التوزيع كان ضد رغباتنا اذ كان كل واحد منا يتطلع إلى حنتوب او مدني الثانوية او السني بهذا الترتيب وحيث ان كثيرين من زملائنا تم توزيعهم هناك. اذكر اننا ذهبنا مبكرا إلى داخليات المدرسة قبل الموعد المحدد وذلك بفضل ان احد زملائنا الاخ صديق الفاضل المبارك كان عمه يعمل مديرا لمهمات المدرسة فسهل لنا الدخول المبكر قبل يومين او ثلاثة من توافد الطلاب الاخرين واختيار احد عنابر الداخلية بعناية شديدة وساعدنا في الحصول على المعدات للمناشط من كرة قدم و ادوات موسيقية وغيرها فبدأنا نتمرن في ميدان المدرسة بانتظار بدء الدراسة وفي المساء نتحلق بوسط فناء الداخليات حول احدهم وهو يعزف العود او نقيم ليلة ثقافية يتبارى بعضنا في القاء القصائد او قراءة بعض المقالات الادبية. وعند بدء الدراسة كنا قد اصبحنا رقما لا يستهان به في مناشط المدرسة الرياضية والثقافية على غير عادة الطلاب الجدد فقد كان فريق المدرسة لكرة القدم يضم اكثر من اربعة لاعبين أساسيين من مجموعتنا احدهم هو المهاجم الأساسي للفريق .
– المهم اننا أهملنا تماما تفوقنا الاكاديمي السابق فلماذا نتفوق إذا كانوا يرمون بنا إلى هكذا مدارس ؟! واذكر ان والدي الحبيب عليه الرحمة جاء ذات يوم مع بداية العطلة الصيفية وهو يحمل نتيجتي التي تم إرسالها اليه بالبريد وكان مهموما جدا وجلس الي يستوضحني ما هذا؟! وهو يمد الي بنتيجة العام الاول حيث كان ترتيبي الثاني والثلاثين مشترك في فصل دراسي اظنه كان بضع وستين طالبا !! كانت اسوا نتيجة لي قبل ذلك خلال المرحلتين الابتدائية والوسطى ان كان ترتيبي الثامن على فصلي فقد ظللت أنافس في الخمسة الاوائل باستمرار. ثم سألني وقد افتر ثغره عن ابتسامة من بين مظهره المهموم ( عندك اي فكرة منو المشترك معاك في هذا الترتيب؟!) ورغم انني ربما هززت راسي دون ان انبس ببنت شفة إلا انني كنت متاكد تماما ان سمي في الاسم صديق الفاضل هو شريكي في الجريمة !!
– مهما يكن فقد تدخل خالي الراحل الشيخ عبدالرحيم محمد عبدالرحيم واستخدم علاقاته وتم نقلي إلى مدرسة الموتمر بودمدني بينما افلح بقية زملائي ايضا في اقناع ذويهم بالسعي لنقلهم إلى مدارس حنتوب ومدني والنيل الأزرق ( السني ) ولم يتبقى بمدرسة المدينة منا احد
يتيم في الستين: لا رجل يشبه ابي (٢)
صديق محمد عثمان سيداحمد
– لم يواصل والدي تعليمه بعد المرحلة الابتدائية حيث انضم إلى عمه جدنا إسماعيل محمد عثمان في متجره بسوق ابي قوتة بسبب الوفاة المفاجئة لابنه الذي كان ساعده الايمن في التجارة وكان حزن جدنا عليه عميقا. وبعد مساعدة عمه على تجاوز تلك المرحلة انتقل والدي للعيش مع شقيقه الوحيد الراحل حسن سيداحمد والذي كان بمثابة والد ثان لوالدي بسبب فارق السن. وبدا والدي العمل بورش سكك حديد الجزيرة وتعلم ومهر في الحدادة والبرادة والتي كانت تتضمن اعمالاً للميكانيكا حيث تتطلب قيامهم بتفكيك ماكينات القطارات واعادة خرط او برادة بعض أجزائها ومن ثم اعادة تركيبها وإخضاعها لتجارب يقومون خلالها بقيادة هذه القاطرات بأنفسهم حتى يتأكدوا من صلاحية ماكينتها لجر الأحمال الكبيرة التي كانت تجرها من بذور وتقاوي وسماد ومعدات في مسافات طويلة تمتد من بركات شرق مدني على النيل الأزرق حتى جبل بومة على مشارف النيل الأبيض ومن ودالشافعي جنوبا إلى الباقير شمالا مرورا بالحصاحيصا.
– ولم يكن قد بلغ العشرين من عمره بعد عندما رزق بمولوده الاول الذي اختار له اسم الصديق ولكن بعد اقل من عام من مولدي في العام ١٩٦٣ اضطررنا إلى العودة العفاض وترك والدي وحيدا في ودالشافعي وكان ياتي في الاجازات الصيفية واذكر انه حتى حينما ياتي للإجازة يكون مشغولا باصلاح غرف ورواكيب المنزل او العمل في الزراعة. وفي العام ١٩٧٠ عدنا إلى ود الشافعي للعيش مع والدي مرة اخرى حيث كان هو يشارك احد اصدقائه وبلدياتنا السكن ولم يكن مستحقا لسكن حكومي منفصل بعد فتنازل له صديقه عمنا علي عبدالرحيم ميرغني عن السكن وانتقل للعيش مع جماعة من العزاب وتم توسيع المسكن قليلا ليستوعب الاسرة الصغيرة حيث كنا حينها أنا وشقيقتي احسان التي تصغرني باربعة أعوام وشقيقي مدثر الذي كان ما يزال طفلا رضيعا.
– ومما اذكره ان والدي كان يحب تفصيل ملابسي المدرسية واحيانا يكون مشغولا جدا بسبب عمله لساعات طويلة خلال المواسم ولكنه كان يصر على تفصيل ملابسي ولفّها وإرسالي إلى ترزي صديق له ليخيطها ولكنه معظم الوقت كان يملك ماكينة خياطة بالمنزل. وكان احيانا يحلق لي راسي بماكينة حلاقة غير كهربائية حينها ولكنه كذلك في مواسم العمل الطويل كان يدعو حلاق القرية لياتي لتناول طعام الإفطار معنا وحلاقة رؤوسنا واذكر انه كان يحضر بحماره في ذات التوقيت الذي يعود فيه والدي لتناول طعام الإفطار عند التاسعة صباحا ويوصيه والدي بالبقاء وحلاقة رؤوسنا وقد يبقى حتى الظهر حيث يجتمع معنا ابناء الجيران تحت الشجرة القريبة من المنزل.
– وكعادة عمال وموظفي الحكومة حينها كان والدي يأخذني إلى متجر الجمعية التعاونية عند بداية العام الدراسي ليشتري لي احتياجاتي من الكراسات وادوات وورق تغليف الكراسات ثم يساعدني في تغليف كراساتي وربما وضع بعض الملصقات وكتب عليها اسمي واسم الفصل ومادة الكراس المحدد ورغم انه كان شحيحا في التعبير عن مشاعره فقد كنت ارى السعادة في عينيه عندما احمل له شهادات التقدير المدرسية والمساهمات الادبية والثقافية.