قراءة سياسية رصينة وتحليل عميق ومنهحي من خبير: حول الراهن السياسي في السودان
.بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله…..
تواترت الأنباء (وتحليلاتها) في الأيام الأخيرة عن أهداف زيارات قائد الدعم السريع لبعض الدول الافريقية. مع تسارع مريب لأدراج السودان في صدارة أجندة المنظمات الأقليمية الأفريقية. فمما يلزم تقريره ابتداءا، أن حركة حميدتي, بل كل ما يدور بشأن الحرب الراهنة، تتحكم فيه الامارات و شركاؤها ( اسرائيل ثم أمريكا وبريطانيا ). وتوظف فيه عملاءها( قحت ثم تقدم)..
ما توفر من معلومات عززتها شواهد قطعية، أن الهدف من كل ذلك هو تهيأة الساحة الاقليمية لتدخل دولي عسكري وسياسي شامل في البلاد, تتولى دول الاقليم الحشد الدبلوماسي “الظاهري” من أجل تحققه. أقول الحشد “الظاهري” لأن فكرة احتلال السودان التي بدأت بجرأة وجلاء منذ يناير ٢٠٢٠، نشأ تصميمها، و بسرية تامة، في بريطانيا والمانيا من خلال سفيريهما في الخرطوم. ولم يكن حمدوك (حامل الجنسية الأجنبية) هو من حرر – بمبادرة منه – الخطاب السري للأمين العام للأمم المتحدة, الداعي لأنشاء تلك البعثة السياسية و العسكرية والأدارية و الأمنية الشاملة و المتحكم فيها. فلم يكن يومها الا موظفا يقوده مشغلوه – الذين يدفعون راتبه – في الاتجاه الذي يريدون. و ما يؤديه اليوم من دور ليس الا اضطرادا لما كان يؤديه في العام ٢٠٢٠ و ما بعده.
ما يجب على كل سوداني استيعابه يقينا, هو أن إستراتيجية من صنعوا الحرب ثابتة و متواترة، و هي السيطرة على السودان، موحدا كان أو مفككا. والسيطرة على السودان تستلزم ابتداء القضاء على مكامن القوة التي هي مظنة صد القذائف الموجهة لدماره. ولذلك كان الهدف الأول هو تفكيك الجيش، مترافقا مع الهجوم المنسق على العناصر السودانية الوطنية الصلبة غير القابلة للرشوة أو الابتزاز أو الأغراء. تلك هي غايتهم الاستراتيجية من حربهم الراهنة على السودان… تتغير التكتيكات بما يناسب المعطيات الظرفية على الأرض، غير أن الهدف الاستراتيجي النهائي يبقى ثابتا.
في أيام ولاية قحت، وظفوا لانفاذ إستراتيجية السيطرة حمدوك وأحزاب قحت. و تم لاحقا استيعاب الدعم السريع — بأغراء جامح يعده “بشجرة الخلد وملك لا يبلى” ، لكنه أغراء مقرون (ان لم يفعل) بتهديد بمصادرة ملياراته مع سجن قد يتأبد . أنتج الأغراء والتهديد لهم ما أرادوا على النحو الجلي الذي تفجر بأطلاقهم للحرب الراهنة..
غير أن مؤشرات الصراع على الارض، بعد موت أغلب مقاتلي العصبة القبلية للدعم السريع، بمن فيهم الألاف من المرتزقة، علاوة على تعاظم كلفة الحرب المالية و السياسية، خاصة في جانب الامارات، قد تعدلت تكتيكيا.
فيبدو من دلالات الحاحهم على إيقاف الحرب التي هم من حشد لها من المرتزقة ما لم يسجل التاريخ نظيره، قد ادركوا بالفعل أن استئجار المرتزق، علاوة على الكلفة المالية و مراكبتها، لا يكون ولاؤه الا لجيبه وليس للجهة المخدمة له.
كل ذلك دعاهم الى استمزاج فكرة بلوغ الهدف الاستراتيجي من خلال التدخل الدولي، بعد التيقن بأن أداتهم العسكرية الحربية اليوم لم تعد قادرة على بلوغه. فقد ظلوا يلوحون بفكرة التدخل العسكري..تلميحا مبطنا حينا وتصريحا معلنا حينا اخر.
ثم اندلع نفير المقاومة الشعبية الوطنية المسلحة، التي يكيفها السودانيون على أنها حركة للتحرير الوطني من استعمار استيطاني احلالي يماثل بالتطابق الاستعمار الاستيطاني الأحلالي الصهيوني في فلسطين.
لأجل ذلك، نحا تقدير الموقف الى اعادة استدعاء فكرة التدخل السياسي و العسكري الدولي في السودان. وهذه يقينا ليست الا نسخة مستحدثة و مزيدة و منقحة لمشروع التدخل الاول في مطلع عام ٢٠٢٠. وبالطبع يلزم لأعادة مشروع التدخل ، اعادة مستلزمات انفاذه المشهورة 🙁 ما يميز بدستور لجنة المحامين، وهو أمريكي الصناعة– الاتفاق الاطاري– تفكيك الجيش وابداله بالدعم السريع– فرض سلطة قحت — وتسلط السفراء واملاءتهم ).
غير أن الجديد هذه المرة هو حشد قيادات أفريقية تمت السيطرة عليها، أما بالرشوة أو الابتزاز أو المغريات المتنوعة، لاعادة إنتاج مشروع التدخل العسكري و السياسي.. و من لوازم ذلك اعادة تدوير يونيتمس( الموؤدة بأمر الشعب السوداني وقيادته), بنسخة جديدة و بقيادة أكثر جرأة من الدور الذي كان يؤديه فولكر.. قيادة تشابه الدور الذي تولاه بول بريمر في العراق بعد الغزو الامريكي عام ٢٠٠٣.
و مما ينبغي التأمل في مدلولاته، أن عددا من الدول التي شملتها جولة حميدتي، هي نفسها مورد رئيسي للمرتزقة المنخرطين اليوم في قتل الشعب السوداني، و المنهمكين في كل جرائم النهب و الحرق و الدمار. و مما يلزم أيضا استصحابه من ذاكرة تاريخنا القريب، أن عددا من قادة الدول الذين شملتهم الزيارة كانت لهم تجارب في غزو متزامن و متناسق للسودان في منتصف تسعينات القرن الماضي.
أمران – في هذا السباق – لا ينبغي غيابهما عن ذهن كل مراقب مدقق. أولهما : لا يستقيم منطق في عالم اليوم حين يقال بأن قيادات هذه الدول لا تعلم شيئا عن مواطنيها المرتزقة ضمن مليشيا الدعم السريع. أو أنهم يتصرفون بمفردهم دون علم دولهم.
وثانيهما : أن من حرض هذه الدول لغزو السودان في التسعينات، هو نفسه من يسوق لها اليوم فكرة التدخل الأجنبي. فقد تتحور أساليب العمل العدائي كما و نوعا، لكن وجهتها ثابتة. و في كل الأحوال، لا اتصور أن طواقم القيادة السودانية غافلة عما ينسجه المتربصون بنا، الذين ما انفكت علاقتهم بنا تتأرجح بين عدو مؤكد .. و صديق مؤقت!! أماغير هذا الفهم فهو عينه الذي ينعته الساسة الغربيون و علماء العلاقات الدولية بمصطلح ” السذاجة الانسيابية Effusive nativity!!
مع تطاول الصراع، شاع بين اولئك المتربصين بالبلاد اعتقاد بوهن القيادة السودانية، و سهولة تجاوزها أو احتوائها بأدوات التجاوز و الأحتواء المتاحة بوفرة لديهم. هذا ما أستقرت عليه تجاربهم. خاصة مع ظاهرة استمرار متلازمة الأبطاء الحذر في اتخاذ القرار السياسي و العسكري و تأخره عن ميقات وجوبه. فالتوقيت في القرار السياسي كالتوقيت في الموسيقى، تتبخر أو تتناقص فاعليته كلما زلف موجبه الزماني.
تعزز لديهم ذلك الاعتقاد بعد رصدهم اليومي لمنهج اتخاذ القرار عند السيد الرئيس البرهان، و بملاحظة لافتة هي أن القرارات الرئاسية حين تصدر بعد ترقب طويل وانتظار، فان انفاذها يتباطأ ايضا، بل قد لا يتم أبدا.
بأستقراء يلامس الواقع، دعنا نستل من ركام القضايا، أبرز العوامل الضرورية اللازم وجودها حين يكون الهدف تحقيق نصر السودان و ارساء ركائز استقلاله وسيادته على أرضه. و دون أدنى ريب، فأن غياب هذه الضروريات يمثل قطبا جاذبا لأعداء السودان لنسج دسائس احتلاله. وأن التراخي البائن عن بلوغها لا يصب ألا في تعضيد معسكر العدوان، بحناحيه المتعاضدين, الدعم السريع و حاضنته السياسية.
أولا: أن من أبرز المخاطر الحالة هو الفراغ المؤسسي في إدارة مجمل شعاب الدولة.
ان الوضع الذي تعيشه البلاد( عسكريا و مدنيا) يستلزم حكومة نشطة يتضاعف جهدها أضعافا عن المعتاد في ظروف الدعة والاستقرار. فلوازم المطلوبات الحياتية لا تنتفي بنشوب الحرب. بل العكس تماما. فحاجة الناس لترتيب الحد الأدنى – على الأقل – من الأساسيات؛ تجارة و صناعة و خدمات و تعليم وصحة و أمن..لا يستقيم تعطيلها الى حين أنتهاء الحرب، التي لا يعلم أحد غير الله متى تنتهي. فلا سبيل لبلوغ أساسيات الحياة من غير جهاز حكومي فاعل نشط لا يعرف التغافل و اللامبالاة. فحتى أذا انتهت الحرب اليوم، فأن حجم الدمار الشامل يحتاج أمدا ممتدا للتعافي والنقاهة. مضت اليوم سنوات على غياب هذا الجهاز..ولا أحد يدرك الحكمة من و راء تغييبه.
ثانيا : تدور الحرب اليوم على جبهتين متناسقتين متعاضدتين ؛ داخلية مسرحها كل التراب السوداني.. أداتها السلاح والجند و الجهاد المادي .
وخارجية مسرحها الفضاءات الاقليمية و العالمية، أداتها الدبلوماسية النشطة التي لا تتثاءب فضلا أن يغمض لها جفن.
للسودان أصدقاء راسخة ركائزهم في الساحة العالمية، و جمعتنا بهم – عبر السنين – المظالم المشتركة و المتراكمة التي أنتجها اختلال التوازن الدولي في العقود الماضية. كانت تجارب تعاوننا معهم موجبة في أغلبها لتحقيق مصالح الطرفين.
أن الوضع الدولي في مجمله ينحو اليوم صوب عالم يتجاوز القطبية الأحادية, الى عالم أكثر عدالة و توازنا. فالمسرح العالمي اليوم ليس هو كما كان في تسعينيات القرن الماضي.
لن تتمكن أمريكا وبريطانيا تحت تاثير اللوبيات الاماراتية و الاسرائيلية، من فرض تدخل عسكري وسياسي في السودان تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة من خلال مجلس الأمن. الا أن عدم قدرة (و لا أقول عدم رغبة) الدبلوماسية السودانية على الحركة الايجابية النشطة، خاصة مع دول الفيتو ( روسيا والصين)، التي ما انفكت داعمة لنا بنحو مضطرد، قد يوهن رغائبها المعتادة للاصطفاف معنا حين يلزم الأمر.
في العالم اليوم عشرات الدول تؤمن بمبدا العدالة و المصالح المشركة، و تتأذى –كما نتأذى– من جنوح الذين لا يرون التعاون الدولي الا نهجا يترنح بين خيارين: عدو مؤكد أو صديق مؤقت. هذا هو التوصيف الواقعي للعلاقات الدولية الذي تعكسه رؤية الغرب، تحت احساسه بالهيمنة، عقب انهيار توازن القوى الذي كانت تمثله القطبية الثنائية.
في بحثنا عن تفسير هذه الكوابح التي وضعت الدبلوماسية السودانية في ما يشبه الأقامة الجبرية، يجمل بنا أن ندرك بادئا التمييز بين أمرين: أولهما: صناعة السياسة الخارجية. و ثايهما: تنفيذ هذه السياسة. ما يلي الصناعة تضطلع به أجهزة الدولة ذات الصلة، و على رأسها الرئاسة وأذرعها المعاونة, التي لا ينبغي أن تنفصم (تحت أي مؤثرات أو ضغوط أجنبية) عن غايات التعبئة الشعبية المسلحة ازاء ما اقترفه العدوان، بأذرعه المختلفة، في حق البلاد و أهلها. ولا تحتاج القيادة لمنظار مكبر يكشف لنا ولها عن حجم العدون ودوافعه. كما لا تحتاج لدليل يحدد من هو المعتدي، ومن هم المنخرطون في معسكر موالاته ؟ و من هو الصديق و كيف نعزز صداقتنا به لتحقيق نصرنا وسيادتنا على أرضنا؟.
حين نستجلي بوضوح دون تشويش هذه البدهيات، يتم تصميم أهداف السياسة الخارجية. و هنا فقط توضع الأداة التنفيذية الدبلوماسية في مسارها القاصد لتحقيق أهداف هذه السياسة .
وفي سياق ذلك، بل قبله وبعده، يلزم السادة القادة تأكيد ما أظن أنهم مدركوه، وهو أن الأداة الأهم لبلوغ التحرر و الأستقلال الوطني هو الالتحام “الانصهاري” بين جيش البلاد و حاضنته الشعبية المسلحة العريضة بكل عوامل الأسناد.. الاسناد القتالي و اللوجستي كما الأسناد السياسي و المعنوي.. فالمعادلة التي لا يعرف المتربصون بنا غيرها تقول: “أنت داخليا قوي..فأنت خارجيا مهاب”. فظننا الحسن في السادة القادة أن تكون مثل هذه البدهيات راسخة لديهم. فما من حركة تحرر وطني واحدة في التاريخ الا كان هذا هو المسار الذي يحقق نصرها.
تشرب الغرب (أمريكا واوربا) في العقود الأخيرة المنتوجات العقيدية لليبرالية المستحدثة، ولم يعد للضبط السلوكي الموجه بالنص المقدس مكان عندهم، بل أصبح منهم من ينادي بنحو جهير الى استحداث كائن هجين يتكون من عنصر تقني مع عنصر بشري، وهو نهج ظلت تروج له منظمات الغرب بدعوة جهيرة للألحاد، و تصفه بمرحلة ما بعد الأنسانية..
هذا الشطح أفرزه تحلل المجتمعات الغربية من أي ثابت قيمي أو عقيدي أو يقيني. و من كثافة تشربهم للقيم الليبرالية المتطرفة، فأنهم لا يرغبون أن تقتصر هذه المفاهيم الموغلة في التحلل على مجتمعاتهم، بل يجعلونها دائما أجندة تملى على العالم غير الغربي، وخاصة العالم الأسلامي.. المسلمون يؤمنون بقرأنهم الذي يقول: “” لكم دينكم ولي دين”، غير أن أغلب قادة الغرب المعاصر يقول لسان حالهم في مخاطبة المسلمين: ” لكم ديني.. و لي ديني”. و على ذلك يتم توظيف المنظمات الدولية لأملاء ما يريدون.
لنعم..ليس من مصلحة السودان عداوة أمريكا أو غيرها.. وكثيرا ما جهرت دبلوماسيتنا في جلسات الحوار مع أمريكا وأوربا، أننا نعزز المشترك الأنساني العام، لكننا لا نتنازل عن خصوصياتنا اليقينية والعقيدية والثقافية. بينما ظل لسان حالهم المعبر عنه في ردهات الدبلوماسية الجماعية و الثنائية، أنه لا مكان عندهم لخصوصيات الشعوب العقيدية و الثقافية. فما يراه الغرب صحيحا يجب أن يراه غيرهم كذلك. What is good for the west should be good for the rest!!
كان هذا هو جوهر أغلب الأجندة على طاولات المحادثات مع أمريكا و بعض دول أوربا. بل هذه هي أطروحات الغرب مع العديد من الدول ذات المواريث الحضارية العميقة الجذور. خاصة تلك التي تبجل الثوابت الفطرية المتمثلة في الدين و العائلة و التنوع الأممي و التميز النوعي للانسان و المخلوقات بين الذكر و الأنثى. حتى أصبح هذا الجنوح الليبرالي الشاذ، بندا راتبا في محافظ الدبلوماسية الغربية، تسعى دائما الى فرضه على البشرية. ولهذا نشهد اليوم تكتلات جماعية للعديد من الشعوب الحرة ذات الجذور الحضارية الراسخة في مواجهة هذا الذي يسعى الغرب فرضه على العالم.
أن مصطلح العلمانية مشحون بالدلالات السلبية في الضمير الجمعي للمسلمين. والدولة العلمانية التي يسعى الغرب و ممالئوه لفرضها مستحيلة التحقق في مجتمع كمجتمعنا. وقد ظلت على الدوام مسارا فوقيا قهريا لا خيارا ديمقراطيا. وحين اعتمادها في مجتمعات تماثلنا، كان أداة فرضها دائما قهر عسكري داخلي، وأملاء استعماري خارجي. و ليس أدل على ما أقول من محاولة جماعات قحت و محرضيهم العلنيين( سفراء الغرب و الامارات) فرض ما أسموه بالاتفاق الأطاري، منذرين جيش وشعب السودان بخيارين: اما الاطاري و أما الحرب. ولما استيقنوا من استحالة فرض الاطاري، كانت الحرب خيارهم البديل لأدراك ما استيأسوا من بلوغه. فالأطاري كان خروجا صارخا عن سيادة البلاد، واختطاف مصيرها، وغرس المسوغ الموضوعي لتفكيكها. وبذلك كان هو الحدث المؤسس لواقعنا الراهن.
اليوم، بات أغلب العالم غير الغربي متوافقا مع من يقول: “أن المستقبل للمقدس لا للمستباح، و للمطلق لا للنسبي، و للتقاليد الخيرة لا للحداثة الشاطحة..فالحداثة ( التي يدأبون لفرضها على العالم) أفقها العدم ، وهذه هي المشكلة الأعمق المتوارية خلف كل السياسات الدولية التي تنسجها العولمة الليبرالية المعاصرة.” هذا اقتباس مما قاله البروفيسور الروسي الاكسندر دوغين ضمن ما أسماه ” بالنظرية السياسية الرابعة”، تمييزا لها عن الماركسية و الفاشية و الليبرالية. و تدور أطروحاتها على أنها الوعاء الفكري البديل للهيمنة الغربية ليس على روسيا وحدها، ولكنها تحتوي مضامينا للتحرر الوطني تناسب كل العالم غير الغربي.
ظن كثيرون ان البشرية قد تعافت مما بلغها علمه من فظائع الحروب القديمة. كما ظن اخرون أن عهود الأستعمار التقليدي، بالالة الحربية والاحتلال المباشر، قد ولت من غير رجعة. وهناك طائفة من الناس لا تزال غارقة في مثالية متوهمة تعتقد بأيمان يقيني، أن القانون الدولي العام، و ميثاق الأمم المتحدة، و أتفاقيات جنيف الأربعة، و أتفاقيات فينا المنظمة للعلاقات الدبلوماسية، واللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية بتصفية الأستعمار، و الانتساب للمنظمات الدولية و الأقليمية..، ظنوا أن هذا الزخم وحده من المواثيق و المنظمات، قد ضمن للشعوب حرية الأنعتاق من فظائع الاحتلال الأجنبي..سواء الأحتلال بالأصالة الجهيرة المباشرة كما في نسخة الاستعمار الأولى في القرون الماضية، أو استعمار بالوكالة، وسائله الرشوة، وحشد المرتزقة، وصناعة العملاء، و أبواق الدعائية السوداء، كما في نسخته الماثلة اليوم أمامنا..
ان حرب السودان الراهنة كشفت بابلغ برهان أن استقلال الشعوب، وبسط سيادتها على أراضيها، غاية مقدسة لا تبلغها الا الشعوب نفسها، عبر الأصطفاف الصلب لقواها الحية الشاملة.
لا أعلم خصائص القيود التي أنتجت ما يشبه انسحاب الدبلوماسية السودانية اليوم من المسرح الاقليمي والعالمي، الذي تصنع في دهاليزه مؤامرات غزو السودان. غير
ان معالجة الخلل البائن على الجبهة الدبلوماسية لا يقل عن واجبات الامداد العسكري على جبهات القتال المباشر. فمعركتنا واحدة على الساحتين الداخلية والخارجية.
ثالثا : انتظمت جموع الشعب في حشد قواها من أجل الدفاع عن شرفها، و عن وجود البلاد واستقلالها.. أن أستكمال هذا البنيان الجماهيري المرصوص يستوجب تنظيما ينتج قيادة من داخله تتولى تخطيط وتنظيم و تنسيق حركته صوب الأهداف العليا للتحرر الوطني. فالفهم العميق والتنظيم الدقيق والتماسك الشعبي القاعدي هو الطريق الوحيد السالك صوب الأنعتاق من املاءات الخارج المتربص بنا : شعبا وأرضا.. وقيما و مواردا. مثلما هو سانحة لتحرر الارادة الشعبية في المجتمع القاعدي من الهيمنة الفوقية للكيانات المتسلطة، خاصة تلك التي نشأت بأمر وأرادة وتمويل و رعاية الخارج لخدمة أهدافه المرحلية والاستراتيجية التي سلفت الإشارة إليها.
جميع التجارب الثورية في العالم، تأسست قواعدها على يقظة الوعي الجمعي القاعدي، الذي استوعب بعمق دروس الغبن الذي حل بالناس، وأدرك ان بلوغ غايات التحرر يستوجب وحدة المسار الكفاحي المتعاضد. ولأجل بلوغ هذه الوحدة، ينبغي أن يصمم ميثاق تعاقدي يبين بأفصاح جلي، الغاية العظمى لحركة التحرير الوطني السوداني، من أدنى تجمع سكاني ؛ في بادية أو قرية أو حي أو مدينة، صعودا حتى يتأسس برلمان التحرير الوطني الشعبي.
حين يخلص أهل السودان الى صياغة هذا الميثاق الوطني،(و أظنهم بالغوه), يلزمهم التمييز في حركتهم السياسية بين الثابت -المبدئي – الاستراتيجي من جهة، و المتغيرات البرامجية من جهة أخرى. مع وجوب غرس الحساسية المفرطة في الضبط و الرقابة و المحاسبة.
جميع حركات التحرر الوطني في التاريخ المعاصر, انتظمت في نسق نظامي محكم، يتصاعد من القواعد الجغرافية، حيث الوجود المجتمعي صاحب الأختصاص الأصيل في كل شأن.
و تنبئنا سير الشعوب التي خاضت نضالات عبرت بها الى مرافئ الانعتاق ثم النهضة، أنها تمكنت من انتاج قياداتها التي ولدت من مشيمة الأخلاص والنزاهة و الصلابة والتجرد. لا يرعبها وعيد عدو، ولا يجذبها أغراء بمال أو جاه، و لا تنتابها أيا من خواطر الخيانة .. و ما أكثرها. فعلى من حركهم المخزون القيمي الراسخ للوطنية السودانية، أبراز هذه القيادات المتحصنة بتحوط يقظ مما أسماه عبدالرحمن الكواكبي ” بالرق المنحوس “، المتمثل في الاختراقات و الأملاءات الأجنبية. وبكلمات الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد”: ” حينما تغتنم الفرصة (فرصة التوهان غير المنضبط) دولة أخرى، فأنها تستولي على البلاد، وتجدد الأسر على العباد بقليل من التعب، فتدخل الأمة في دور اخر من الرق المنحوس”. الكواكبي كان يكتب في العام ١٨٩٩م ، أي مائة وعشرون عاما قبل أن يحل “الرق المنحوس”في أهل السودان بين عامي ٢٠١٩ و ٢٠٢٤م و ما بعدهما.
لقد استجابت جموع السودانيين لواجبات التحرر الوطني، بيقظة وانتباه لا يناظره الا نفرة أسلافهم في المهدية قبل قرن و نصف. وكما يقول أهل البصائر: أن اليقظة هي انزعاج القلب لارتياع الموقف. و تلمس البصيرة لأدراك البغية. فمن غير إنتفاع عميق بالعبرة، لا حديث يمكنه قيادتنا الى خلاص مستدام. ولا يجدينا أيضا التسمر في ما أعتدنا من هياكل العمل السياسي القديمة.. لأنها أولا: أجتهادات ووسائل نسقية متغيرة وليست ثوابت عقيدية. ولأنها ثانيا : أن ناسبت مسرحا سياسيا ماضيا، فان الحرب الراهنة صنعت حقائق مذهلة لم يعهدها السودان في تاريخه الوسيط و المعاصر. فما بات يستيقنه اليوم غالب أهل السودان، أن الاصرار على أنتهاج ما أعتمده كثير من الساسة فيما مضي من أدوات و هياكل يمارسون من خلالها نشاطهم الحزبي، والأصرار على ذلك مع تبدل الظروف والأحول، يعني فقط الغاء البصيرة الدالة على خصائص المغالبة الراهنة، التي تمثلها الأطماع الاستعمارية الجهيرة. هذا النهج الجامد العتيق يقود حتما الى تشكل حالة تهدد وجود الدولة كلها و ما عليها ومن عليها. فواجب الجميع- إذا- صناعة اصطفاف وطني يستجيب بنحو ايجابي لتحديات التحرير الوطني الماثلة.
فلا نمل القول أن التجمد في قوالب العمل السياسي القديمة قد أسهم بقدر وافر في انتاج واقعنا المأزوم الراهن. فلن تقودنا قوالب العمل السياسي القديمة الى غاية أفضل مما نتجرعه اليوم. فغير مطلوب من أهل السودان شرب البحر الأحمر كله حتى يتأكدوا أنه مر أجاج لا يصلح لحياتهم. فما ذقنا من حنظل واقعنا في العقود الماضية أكثر من كاف. هذا مع بداهة القول أنه ليس في حركة الأجتماع السياسي كله جمود هيكلي – تنظيمي لا يتغير و أن تغير كل شيء حوله. فالتغير، فضلا عن التكيف، هو احدى خصائص الفاعلية في كل نسق سياسي أو اداري.
أمام ملايين السودانيين اليوم سانحة نادرة لينتظموا حول غاية واحدة .. هي غاية التحرر من أغلال الأستعمار والاحتلال و الأطماع الأحنبية، المتسلطة علينا بالأصالة و بالوكالة. فالمتاح من تفاعلات المشهد، لا يشير أمامنا ألا الى سبيلين ؛ أما تحرر و أما استعباد .. أما صعود و أما هبوط..أما الى أعلى و أما الى أسفل..أما نهوض بلا سقف و أما انحدار بلا قاع.. “لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر”.. فالمتاح أمامنا يستوجب تغيرا منهجيا واسع المدى في تعاطي العمل الوطني.
يقول أهل التحقيق : الأنسان يتغير لسببين: حينما يتألم أو حينما يتعلم.. حين يتألم بأكثر ما يتحمله الشخص السوي..وحينما يتعلم بالتجربة القاسية والبرهان المبين. ولا شك أن أهل السودان قد أصابهم قدر كاف من كلا السببين.
فما من أمة أصابها من الرزايا بمقدار ما أصابنا، الا كان ذلك أقوى محركات يقظتها..يقظة عقلية و وجدانية تحيل ما مات في تلافيف الغفلات و اللامبالاة الى أنتباهة متحفزة. قديما نسب للأمام على كرم الله وجهه أنه قال: ” الناس نيام، فأذا ماتوا انتبهوا”. فكل هذا الذي أقول ليس ألا دعوة للأنتباه من الموات الطبيعي و المعنوي الذي حل بأهل السودان، كما هو دعوة لتأسيس مستدام لمجتمع سياسي امن و راشد ومستقر. رؤية تسعى على الدوام لأستصحاب دروس الثالوث الظرفي الذي في طواياه تنشأ اليقظة و تتولد العظات، استيعاب دروس الماضي و الحاضر و مطلوبات المستقبل. و في رفقة هذا، نستدعي أيضا تفاعلا لمتلازمة أخرى ثلاثية الأبعاد، لم تتجاوزها جميع النظم السياسية المستقرة، و هي متلازمة الفكر السياسي، و المؤسسات السياسية، و الأداء السياسي.. الفكر السياسي الراشد المنسجم مع جذور و خصائص واقعه المجتمعي، و المؤسسات السياسية المعبرة عن ضرورات وجودنا الأنساني، و الملتزمة بمضامين ذلك الفكر الراشد، و الأداء السياسي المنضبط بمعايير الفكر السياسي و قوالبه المؤسسية.
على جموع أهل السودان المصطفين في جيش الكرامة، ان ينتخبوا أهل الصدق و الصلابة والوفاء( الشباب خاصة) لقياداتهم صوب التحرير. ولتنتظم مجالس شورى التحرير الوطني صعودا من اصغر تجمع سكاني حتى يتألف برلمان التحرير الوطني السوداني، وينتخب قياداته، ويباشر مهام و مطلوبات التحرير كافة: عسكرية و سياسية و مالية وغيرها. و الأوفق دائما أن يباشر مجلس التحرير الوطني كل واجبات المرحلة على الصعيدين الداخلي و الخارجي..ويسهر لتحصين البلاد من أختراقات ” الرق المنحوس” التي سلفت الأشارة إليها.
رابعا:
من أجلى رزايا الحرب الراهنة انهيار الاقتصاد كليا في أغلب قطاعاته. ومع شيوع فقر يتسع مداه كل يوم،، فأن ملايين الأسر عادت الى محاضن الاسناد الاساسية، وانتظمت بنحو تلقائي في احياء علاقات التضامن ذات الأسس المحلية و القرائبية.
لم يعد للقطاع الانتاجي العام مردود موجب في الناتج المحلي الأجمالي. ولم يعد للقطاع الحكومي مخزون لتشغيل واعاشة الملايين.
وما سلف ذكره ينطبق على القطاع المصرفي. فالمعايير الاجرائية التقليدية للتمويل المصرفي لم تعد قائمة. واحتراز مخاطر التمويل بالضمان الصلب solid collateral ذهبت باحتلال الدعم السريع لجميع العقارات، و بنهب كل اصول ثابتة ومنقولة، وبتدمير المصانع والمتاجر و المصارف أو نقلها الى بلاد المرتزقة الغزاة.. لم يعد ممكنا ان تجري الدورة المعتادة للاقتصاد الوطني حتى بأقل نسبة. غير أن الأوفق لموضوعنا هو أستفراغ الوسع في استكشاف منهج العمل الأقتصادي الأيجابي الذي بمقدور الشعب السوداني و حكومته( حين تكوينها) ان يعتمده أزاء هذا الوضع.
أن المنهج الذي لا يبدو للبلاد مخرج أكثر مواءمة لواقعها عنوانه الأبرز هو ” الاقتصاد التضامني الاجتماعي”.
هذا المنهج يستوجب اعادة هندسة الحركة الاقتصادية التقليدية القائمة على القطاع العام و القطاع الخاص لأستيعاب قطاع ثالث أكثر جدوى في هذه المرحلة؛ وهو القطاع الأقتصادي الاجتماعي- التضامني، الذي حتمته السياقات الظرفية الراهنة. هذا منهج هدفه ادراج ملايين الناس(الشباب خاصة), في ملايين الأنشطة الأقتصادية المتنوعة.
في حدود هذه المساحة، ارجو أن أشير الى أن هذا المنهج لم يتأسس عندي فجأة، و لم يكن ناتجا عن خاطرة طارئة أو فكرة عجلى. ولم يتشكل خلال أيام أو أشهر. بل هو تصميم مسودن، تم من استخلاص لعشرات التجارب في عشرات الدول، وقد وقفت مباشرة على انجع نتائجها على مدى يقارب ربع القرن.
تزداد القناعة يوما بعد يوم، بأن هذا البرنامج هو الخيار العلمي و العملي الأمثل لواقعنا الماثل، و الأكثر جدوى لأنتشال الملايين من حالة الفقر الذي يزحف حثيثا ليضرب كل بيت.
يتأسس البرنامج على تكامل عوامل الأنتاج : رأس المال النقدي..راس المال الفكري والاداري..والموارد الخام.
عندما صمم البرنامج في مبدئه قبل زهاء ربع القرن، كان يستهدف ملايين الشباب من خريجي الجامعات( اكثر من ١٥مليون شاب، يحملون حوالى ٣٠٠تخصص علمي، اعمارهم في النصف الاول من العشرينات.. الخ).في الأعمال والخدمات والصناعات الصغيرة والمتوسطة، في قطاعات الصناعة والزراعة والتعدين و الخدمات وغيرها.
فالبرنامج في مبدئه كان مصوبا لسد رغبات العمل للملايين من الشباب..غير أن الشلل الناتج عن افرازات الحرب جعله الأنسب ( وبدرجة أعظم) للبلاد كلها، ولكن بشروط نجاح أربعة، ان تخلف أحدها انهارت منظومتة كليا أو جزئيا.
الأشراط الأربعة مفصلة في تطبيق ،PowerPoint, و معها تفاصيل المسارب الأجرائية وطريقة العمل المعيارية.
يلزم هنا الأشارة، أن هذا البرنامج لا يستنسخ ما يعرف بالتمويل الأصغر. كما لا يماثل أعمال الصدقات والهبات وأعمال البر الخيرية، الموجهة بحكم طبيعتها لعلاج مسغبة فردية أو كارثة طارئة او حالة أنسانية مؤقتة.
هذا برنامج نهضوي- انتاجي شامل..فان سنحت الفرصة، فيشرفني استعراض جزئبات عمله في مدة ساعة ونصف.
الخير أردت.. ولكل أمرئ ما أكتسب..وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر……..
كتبه: ابراهيم البشير الكباشي
يناير ٢٠٢٤م