حامد الناظر: الفيتوري الصغير
أول عهدي بالعاصمة الخرطوم، مطلع التسعينيات، رحت أزور عمي المرحوم “صلاح حامد سراج” وهو ابن عمة أبي، شقيقة أبيه، ولم أكن قد قابلته في حياتي. ابتلعته الخرطوم منذ أزمنة بعيدة حين ذهب إليها طالبًا في جامعة الخرطوم مطلع الخمسينيات -رفقة شقيقه المرحوم العم محمد سعيد- فلم يعد. بنى مجده الشخصي من دون ضوضاء، وكوّن عائلة كبيرة رائعة عاشت في حي الرياض في الخرطوم، ومن قبل ذلك في حي الأملاك في مدينة بحري، مقابل السينما تقريبًا حيث زرته ذلك المساء البعيد.
كان وقتها ما يزال مديراً للمركز العربي للتأمينات الاجتماعية التابع لمنظمة العمل العربي، وقد تأسس المركز على يديه في العام ١٩٨٠، وقبلها كان مندوبًا للسودان في إحدى المنظمات الدولية خلال العهد المايوي، وقد صعد إلى ذلك كله بفضل مساهمته الكبيرة في تأسيس وإدارة نظام التأمينات في السودان عقودًا طويلة، وشاد أمجادًا وصروحًا كثيرة لها هنا وهناك تشهد له بالفضل، ومنها “عمارة التأمينات” إحدى علائم مدينة بورتسودان الخالدة، وتلك قصة أخرى كان يعرفها العم عثمان شيبة رحمه الله وبعض عارفي فضله في هذا المجال.
خرجت من عنده قبيل غروب الشمس بقليل، وعند المنعطف باتجاه الغرب على بعد مائة خطوة تقريبًا من بيته، تعثرت بمكتبة صغيرة، أو “كشك” بالأحرى، مكتوبًا على أحد جوانبه “منشورات الفيتوري الثقافية” فرحت لهذه المصادفة التي جمعتني بشاعري الأثير على أحد الأرصفة من دون سابق موعد. استقبلني صاحبها بابتسامة ودودة وهو ينظر إلي من تحت حاجبيه نظرة مؤدبة تنم عن أدب عرفاني ومحبة صوفية. كان شابًا أسمر نحيلًا، صورة مصغرة من الفيتوري نفسه، وتعجبت! ثم زال عجبي لاحقًا حين عرفت أنه نجله “تاج الدين”، وكلما تذكرت ذلك قفزت إلى ذهني ملحمته الخالدة عن “مقتل السلطان تاج الدين” سلطان دار مساليت الذي حارب الفرنسيس في ذلك الأفق الغربي في “دار اندوكا” وجندل جيوشهم قبل أن يتمكنوا منه.
فوق الأفقِ الغربيّ سحابٌ أحمر لم يمطرْ
والشمس هنالك مسجونة.
تتنزى شوقاً منذ سنينْ
والريحُ تدور كطاحونة.
حول خيامك ياتاج الدينْ.
…
حتى مات.
كان السلطانُ يقود طلائعَنا
نحو الكفار.
وكان هنالك بحرُ الدينْ
وأشار إلينا تاجُ الدين.
وأطل بعينيّ الحالم
في قلب السهل الممتدْ.
ثم تنهد:
الحربُ الملعونة
يا ويل الحرب الملعونة
أكلتْ حتى الشوك المسوَدْ
لم تبقِ جداراً لم ينهدْ
ومضى السلطانُ يقول لنا
ولبحر الدين:
هذا زمنُ الشدة يا إخوان
هذا زمنُ الأحزانْ
سيموت كثيرٌ منا
وستشهد هذى الوديان.
حزناً لم تشهده من قبلُ ولا من بعدْ.
ومن أسف، كانت هذه الأبيات شيئًا مثل العرافة أو النبوءة، فما تزال الشمس هنالك مسجونة، وتلك الديار على حزنها بسبب الحروب الملعونة المتناسلة، وتفرق أهلها أيدي سبأ بعد أن أعملت فيهم كتائب الجنجويد فتكًا وتقتيلًا في “الجنينة” و”أردمتا” دونما سبب، سوى أنها تكره رؤيتهم أحياء. لقد زرت قصر السلطان من قبل، وهو مقر إدارة سلطنة دار مساليت، زرته على أيام سلطانها الحالي “سعد عبدالرحمن بحر الدين” وأكرم وفادتنا غير مرة كما يليق بالسلاطين الكبار. يقوم القصر على كتفي ربوة ناهضة تشرف على مدينة الجنينة وكأنما يحرسها، ويطل على نهر “كجا” وعلى الأفق الغربي البعيد حتى حدود دولة تشاد، وكنت كلما زرت المكان أتذكر ملحمة الجد الكبير تاج الدين كما صاغها الفيتوري الذي تنحدر أمه من ذلك الأفق الغربي النبيل أيضًا، فولد هناك، ثم حمل لواء الشعر، زنجيًا صميمًا يبزّ أقرانه العرب الأقحاح بقصائد تمور بالثورة، وبالوجع الإفريقي الذي كان يداويه بالشعر والحكمة، وباللغة المسننة الحادة أكثر الأحيان.
اشتريت على الفور ديوانه اللعنة “أقوال شاهد إثبات” وكان يضم قصائد في رثاء عبدالخالق محجوب وجوزيف قرنق والشفيع أحمد الشيخ، وبقية الرفاق الرائعين الذين قدموا رقابهم على مذبح المبدأ. أعدمهم النميري دون أن يطرف له جفن، ثم لم يكتف بذلك، طارد الفيتوري ومراثيه حتى ضاقت بهم الأرض. سحب منه الجنسية السودانية وتركه معلقًا في التيه، ثم تلقفه القذافي نكاية في نده اللدود النميري، ومنحه جنسية والده الليبية، وفتح أمامه آفاقًا جديدة. حتى هذه ضاقت عليه فتمرد عليها وعلى جميع القواعد، وأولها القواعد الدبلوماسية ولوائحها الوظيفية، ثم قال القذافي قولًا حكيمًا وغريبًا على لسانه “الشعراء لا يتقاعدون”. ورد الفيتوري الجميل بأبيات قصيرة أيام حصار ليبيا.
إن حاصروك،
برعودهم ويروقهم، لا ترتجفْ.
إن قاتلوك، برعودهم وبرقوهم لا ترتجفْ.
أو حاصروك، بغروبهم وشروقهم، لا تنعطفْ.
فلأنت أشرفُ من وقفْ.
اصمد وقِف.
فالعز يا متوهج القسماتِ
يكمن في الصّلفْ.
كنت أحفظ الكثير من قصائد ذلك الديوان “أقوال شاهد إثبات” عن ظهر قلب، وكلما رأيت تاج الدين في مناسبةٍ ما من مناسبات الخرطوم الكثيرة بمظهره الصوفي النبيل وعمامته الإدريسية الأسطورية، أو حتى على شاشة التلفزيون أو صفحات فيس بوك وقد انعقدت لنا فيه صداقة جديدة، تحضرني قصيدة من قصائده فأتلوها في سري وأتذكر صاحبها الذي اختار السكينة بعيدًا على ضفاف الأطلسي حتى رحل عن الدنيا، وكأنه كان ينعي نفسه حين قال.
حين يأخذك الصمت منا، تبدو بعيدًا
كأنك رايةُ قافلةٍ غرقَت في الرمالْ.
تُعشبُ الكلماتِ القديمةَ فينا
وتشهق نارَ القرابين فوق رؤوس الجبالْ.
وتدورُ بنا أنت.
يا وجهنا المختفي خلف ألف سحابة
في زوايا الكهوفِ التي زخرفتها الكآبة
ويجرّ السؤالُ السؤالَ
وتبدو الإجابة نفسَ الإجابة.
لكن ذلك في الحقيقة كان رثاء لعبدالخالق محجوب ورفاقه، فمن يرثي تاج الدين وأمه الآن؟ وقد مات الفيتوري الكبير وغادر الشعراء من متردم ومن أم درمان ومقرن النيلين ومن كل ضاحية كانت تستقبل الشمس في سلام وتودعها في سلام؟ قتله رصاص الجنجويد الغادر بعد أن قاوم استيلاءهم على ممتلكات منزله، فالمنزل، أي منزل، وبالإضافة إلى كل ما يمثله في ذاكرة ووجدان صاحبه يضم ثروة أخرى هي ذكريات والديه، الفيتوري الكبير وأمه الفنانة الكبيرة “السيدة آسيا عبدالماجد” التي سبقته إلى المصير ذاته بشهور قليلة، بشظايا قذيفة أخرى غادرة ودفنت في فناء البيت نفسه لأن الحرب سدت المسالك إلى جميع المدافن.
إن كان ثمة حاجة لوصف هذه الحرب بأوصاف أخرى في التاريخ الذي لم يكتب بعد، فهي حرب البيوت، وهي بهذا المعنى موجهة إلى الناس، إلى أخص خصوصياتهم، إلى آخر ملاذاتهم التي يشعرون فيها بالأمان وهي بيوتهم، ولذلك خرجت عائلة العم صلاح سراج من بيوتها الدافئة، العامرة بالطمأنينة الطويلة في بحري وفي الرياض، احتُلت من قبل الجنجويد ونُهبت مدخراتهم حتى لم يبق لهم شيء، فخرجوا من العز والستر إلى النزوح والعدم من دون أن يرتكبوا أي ذنب سوى أنهم من سكان الخرطوم، حالهم حال الآلاف من العائلات الكريمة التي “بهدلتها” الحرب ونغّصت عليها عيشتها، ثم ضربت في الأرض تنتعل الرمضاء.
يا صديقي تاج الدين، فليرحمك الله ويغفر لك ولأمك السيدة آسيا ولكل ضحايا هذه الحرب اللعينة، قد يكون العزاء في ذلك كله في مرثيات الفيتوري الكبير، وفي قصائده التي نعاكم فيها جميعًا من زمان بعيد وكأنما كان يرى من وراء ححب الزمان.
هذا زمنُ الشدة يا إخوان.
هذا زمنُ الأحزانْ.
سيموت كثيرٌ منا
وستشهد هذى الوديان.
حزناً لم تشهده من قبلُ ولا من بعدْ.
حامد الناظر