رأي ومقالات

الماركسية.. كيف تم استثمارها؟

على الرغم من أن التيار الذي يطلق على نفسه «الماركسي»، لعب دوراً غير قليل في الحياة السياسية العربية، لاسيّما في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات، إلّا أن إنتاجه المعرفي، لا يكاد يذكر قياساً بالنشاط السياسي وباستثناءات محدودة.

وقد واجهت «الماركسية العربية»، وماركس بالذات، نوعين من الإساءة والتشويه عن عمد أو دون قصد بسبب الجهل وعدم المعرفة، والجهل قسمان: إما من الأعداء والخصوم، حيث جرى أبلسة ماركس، ونُسبت إليه الكثير من المواقف لتشويهه لدرجة التأثيم والتحريم والتجريم، خصوصاً بتفسير بعض عباراته باعتبارها معادية للدين.

أو من المريدين والأنصار، حيث جرى تقديسه، فاقترب من منزلة القديسين، لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، واعتُبرت آراؤه واستنتاجاته صالحةً لكل زمان ومكان، وكأن التاريخ توقّف بعده، وحاولت الأحزاب الشيوعية استثمار اسمه لأغراض سياسية وقومية أحياناً، ففي روسيا جرى «روسنة» ماركس بإضافة اسم لينين ومن بعده ستالين إليه، وفي الصين «صيّن» ماركس، بإضافة اسم ماو تسي تونغ إليه، وفي ألبانيا كان اسم أنور خوجة جنباً إلى جنب ماركس، وسميت الماركسية البولبوتية في كمبوديا، والماركسية الجيفارية في أمريكا اللاتينية، وفي عالمنا العربي تعاملنا مع ماركس كشيخ عشيرة أحياناً، وهكذا تضبّبت صورة ماركس، فلم نعد نعرف أين هي صورته الحقيقية من صورته المتخيّلة؟

وحين أطيح بجدار برلين 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 هناك من سارع إلى إعلان وفاة ماركس مجدداً، مع أنه رحل عن دنيانا في العام 1883، وانتقل بعض الماركسيين العتاة إلى الضفة المعاكسة بزعم التجديد وتغيّر الظروف، حتى استبعد لفظ الإمبريالية عن الولايات المتحدة، وبين عشية وضحاها، أصبح «العامل الدولي» مرادفاً للحديث عنها، في حين كانت الماكينة الإعلامية تضجّ بأسوأ النعوت لها باعتبارها العدو الأكبر للشعوب، بل إن البعض استقوى بها في مواجهة أنظمة بلاده الاستبدادية.

ليس غريباً حين وجدنا من يقول: علينا وضع الماركسية في المتحف، لأنها من تراث الماضي، مثلما ظلّ نفرٌ يتشبّث بكلّ ما قاله ماركس باعتباره الحقيقة المطلقة، وبين التحلّل والجمود، ظلّت صورة ماركس تستخدم ذات اليمين وذات الشمال، حتى ضاع ملمحها الحقيقي.

ولعلّ الحديث عن صورة ماركس اليوم، إنما هو انعكاس لأزمة وعدم اطمئنان وقلق، وهو حديث عدم ثقة وضعف يقين وتشوّش رؤيا، فقد تخلخلت الأسس والقناعات السابقة والراهنة.

من يريد استعادة صورة ماركس فعليه اجتراح الواقع، فقد كان ماركس الحلقة الأولى في التمركس، ولا بدّ من الاستفادة من منهجه الاجتماعي، أما تعليماته والعديد من استنتاجاته، فهي تصلح لعصره وليس لعصرنا، وقد تجاوزها الزمن، حتى وإن كانت صحيحة في حينها، وعلينا قراءة الواقع واستنباط الأحكام المنسجمة مع الحاضر والمتطلعة إلى المستقبل، لأن المرجعية هي للواقع وليست للنصوص، ولا قيمه لنظرية دون الواقع، والممارسة جزء لا يتجزأ من النظرية.

وإذا كانت الغايات شريفة وعادلة فلا بدّ من وسائل شريفة وعادلة أيضاً للوصول إلى تلكم الغايات، لأن الوسيلة من شرف الغاية، والوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة على حد تعبير المهاتما غاندي، لذلك فإن العديد من التجارب الاشتراكية التي زعمت تحقيق العدالة والمساواة وإلغاء الاستغلال، فشلت بالتطبيق العملي، بل كانت نموذجاً آخر للاستبداد والطغيان، ولم يشفع لها التشبّث بالنصوص النظرية، لاسيّما بإهمالها الواقع، فلا قيمة للنصوص إذا لم تأخذ الواقع ومتغيراته بنظر الاعتبار.

وهكذا كانت بعض النصوص الماركسية تقرأ باعتبارها مقدسة، ولا تقبل النقد أو المخالفة أو التقريظ، حتى غدت أيقونات خالدة وسرمدية، وتنطبق على كل زمان ومكان، وفي ذلك خلاف لماركس نفسه، الذي كان ناقداً، وهو القائل «كلّ ما أعرفه أنني لست ماركسياً»، بمعنى عدم رغبته في أن يكون خارج النقد، لكن «الماركسية» المطبقة، جرى امتهانها، في ظلّ بيروقراطية حزبوية شديدة، قادتها إلى الفشل في مواطنها الأصلية أو في فروعها في العالم العربي، التي اكتست برداء ريفي أو طائفي أحياناً.

عبدالحسين شعبان – صحيفة الخليج
%D8%B9%D8%A8%D8%AF %D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86 %D8%B4%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D9%86 0