رأي ومقالات

فوزي بشرى: خطبة الحجاج في مدني

صعد الحجاج منبر مسجد في مدني و الناس وجوم. وقف يطيل النظر فيهم ساعة لا يكلمهم حتى ظنوا أنه لن يحدثهم في شيءٍ. أبدا. كان يجيل بصره بين الصفوف ثم يمده الى آخر صف ثم يضيِّق عينيه و يقطب جبينه تارة و يفتحهما واسعتين تارة أخرى حتى لا يبق أحد خارجهما. صمت مطبق لا يبدده غير أصوات الرصاص بين الفينة و الأخرى. للصمت ثقل و كثافة ما ينفكان يزيدان حتى لو سقطت حبة في مسبحة على أختها كان لها وقع دوي و لو بلع شخص ريقه بلغ صوت حلقومه جاره السابع في صف الصلاة. يتململ الناس في جلساتهم و هم ينكمشون داخل أنفسهم فقد استبد بهم القلق و تبخرت سكينة المسجد و الطمأنينة اللازمة للصلاة حتى صار خارج المسجد آمن من داخله و البندقية الآلية تتدلى من كتف الحجاج نذيرا فصيحا أن لا أمان مع أي لخبطة داخل المسجد أو خارجه.

سم الحجاج باسم الله و صلى على نبيه محمد عليه أفضل الصلاة و التسليم فذهب ذلك بروع أكثر الحاضرين ثم صمت طويلا و حدق كثيرا في الوجوه واحدا واحدا، وصفا صفا فما تسمع غير السكون ثم قال: إن الذي أصابكم قد كتب في جنوبكم و صحافكم و لا راد لأمر الله. فهمَّ كل واحد أن يتحسس جنبه و صفحته. ثم صمت ساعة أخرى زادت فيها معدلات ثاني أكسيد الكربون فالمراوح ساكنة سكون الناس ثم قال: أنتم آمنون في بيوتكم ما لزمتموها لا تخرجون منها أبدا. نوفر لكم الأكل و الشراب و الدواء فإن شغب عليكم شاغب فعليكم بإبلاغ أقرب ارتكاز للأشاوس يأتونكم من فورهم فقد جعل الله حماية رقابكم و نسائكم في أيدينا حتى يقضي الله أمره فيكم. و لكن حتى ذلك الوقت إني محذركم و متوعدكم و لا عذر لمن أنذر: إياكم و اللخبطة.. إياكم و جقجيق النقار. ثم نزل.

كانت أول كلمة سمعت بعد قول الحجاج هي ما همس به مصل لمن بجواره: جقجيق النقار ده شنو؟
قال له جاره هامسا أظنه التحول الديمقراطي.

اها و اللخباطي ده شنو؟ كان أشوس قد رمق الجارين المتهامسين فلزما الصمت وتباعدا. ظل المصلون بالمسجد ينتظرون توقف صوت الرصاص للخروج. أخرج الحجاج هاتفه وما زاد في حديثه عن جملة بدت كما لو أنها أمر بإيقاف إطلاق الرصاص. قال لهم قوموا و خرج.
فخرجوا إلى شوارع مدينة تنكرهم و ينكرونها، كأنها ما هي، كأنهم ما هم.

تقع الخطى ثقيلة على الأسفلت أو على الشوارع المتربة، و تقع الأرواح أشد ثقلا في قلوب حامليها. ابتلعت المدينة صوتها فتبكمت امحت ذاكرتها إلا من جملتين توقعان خطى السائرين: جملتان برزخيتان تقفان بك بين الموت و الحياة: دخيل الأيدي في النقار والاجتراء على أن تكون إمرأً لخباطيا.

تمر التواتشر ناهبات شوارع المدينة فيصاعد غبار كثيف فوق رؤوس الناس. بدا الغبار يصاعد و يصاعد كأنه انبعاث للمدينة من قبر. ثم فجأة تراءى لبعضهم أنه رأى صورة الكاشف في الغبار و قال آخرون إنهم رأوا قبة السني ازدادت طولا و اخضرارا، و قال بعضهم إنهم سمعوا أحمد خير يخطب وأبو اللمين يغني و تناهت إلى آخرين أصوات المشجعين في دار الرياضة و أصوات الناس عند انبلاج الفجر من جهة النيل تلاميذ و عمال و نساء و رجال يمنحون الشوارع حياتها، الشوارع المتلهفة الى الخطى غادرتها آخر الليل. لا تقوم للشوارع حياة بغير خطى.
سأل رجل رجلا آخر يسايره في الشارع: هل ترى و تسمع ما أرى و أسمع؟
تقصد حديث الخطبة؟
أي خطبة؟
خطبة اللخباطي.
أي لخباطي؟

اللخباطي الذي.. بدا كأن الرجلين ينتميان الى زمنين مختلفين و إلى مزاجين ليسا سواء: واحد عالق بلحظته الراهنة و آخر مستغرق في رؤية متحررة من سلطان وقتها. تعذر التواصل بينهما فصمتا كل واحد غرق في ذات نفسه.. في غباره.. للدقة في مدينته الحاضرة الغائبة.

فوزي بشرى