رأي ومقالات

حسان الناصر: إرث جمال !

على مر تاريخ بلادنا السياسي و الإجتماعي، وفوق تلال الحداثة الرخوة التي شُيدت على وقع مداميك المعمار الإستعماري الذي أقامه (كتشنر) ظهر المجال العام السياسي، يكتنف توترات واضحة، لكنه ظل محتفظ بنوع من التقاليد التي تم تداولها داخل مذكرات سياسية، أو شروحات تاريخية، وربما كتابات نقدية وأخرى صحفية.

خلفت النخبة السياسية السودانية نوعاً من الإرث الذي يمكن من خلاله بناء وعي سياسي موغل في الرفعة و نابع من مسؤولية إتجاه الأزمات السياسية و الإجتماعية التي ظل السودانيون يسيرون فيها قدحا من الزمن.

تمثلت هذه التقاليد (الإرث) في الصحف التي ظهرت باكراً منذ فجر الحركة الوطنية السودانية بعد الحركات السياسية التي دشنت في العشرينات، وفر هذا المناخ قدرا لا بأس به من نشوء هذه التقاليد لتصبح الكتابة السياسية و إجتراح المفاهيم و الأفكار مسارا يمكن أن نقتفي أثره.
خصوصا وأن العمل السياسي لم يبدأ مجرداً من ثقافة بل نشأ في حواضن ثقافية ومدارس تعبر عن إتجاهات مختلفة، وربما نجد في سيرة أم درمان ومدارسها المختلفة ما يمكن أن نمسك الحاضر به.

جاءت التنظيمات الوطنية بعد ذلك بنخبتها الحداثية التي تشربت هذه التقاليد لتعكس نوعا من السياسة الراشدة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، وبما فيها المسلحة أيضاً، وربما هنا نجد أن الواثق كمير وبعض الصحفيين قد وثقوا لهذه المسألة.

و بتيارات السبعينات و الثمانيات مع ظهور النخبة السياسية بشقيها الشيوعي و الإسلامي نجد أنها منظومات سياسية تحتوي على شكل من التقاليد السياسية التي يرتبط فيها الفكر و الممارسة السياسية، كدالة على عمق التجربة ويمكن العودة لما تم تناوله في تلك المرحلة من عمر تجربة الحزب الشيوعي و الجبهة الإسلامية.

ربما كان الإنحطاط السياسي الذي نعيشه اليوم، قد بدأ منذ أن أصبحت القوى السياسية مجرد محمول في أروقة الممارسة التي رسختها المنظمات المانحة حيث فقدنا السياسي العضوي ، الذي يبدأ خطه السياسي من مرجعيات فكرية نابعة من مصلحة إجتماعية يقوم التنظيم السياسي على أساسها، و يشتبك من خلال نص سياسي مع ممارسة ملتحمة مع الواقع.

تحولت السياسة إلى سوق مضطرب مطلع هذا القرن وهو ما لا يمكن فصله عن الواقع الإقتصادي للمجتمعات أو عن الاختراقات التي قامت بها المؤسسات المانحة لأجل تمويل العمل السياسي حيث تحولت المنظومات إلى وكيل يخدم روشيتة محددة لا يستطيع الخروج منها.

فإن قسمت المؤسسات السياسية خلال المرحلة المتأخرة من تاريخ المجال السياسي و الإجتماعي إما وكلاء منظمات مانحة، بعدين عن العمل الفكري و السياسي الجاد، أو مجرد أشخاص كانوا جزء من صفقات أنظمة، وفرت لهم قدراً ميسور من المال القذر من أجل البقاء في المشهد.

إننا إذ ننشد السياسي فإننا نطرق على باب الفكر و الإلتزام الواضح وفق بالمباديء الوطنية كدالة على الإتجاه، وعلى الممارسة السياسية الجادة و المسؤولة كدليل على نية الفعل السياسي.

لذلك ما نشاهدهم اليوم في الساحة السياسية ما هم إلا مجرد بائعي (سجائر ) على قارعة الرصيف، بحيث يبيعون للمتلقي (الكيف) ويغيرون البضاعة حسب الزبون، أو هم مجرد وكلاء أحذية تأتيهم البضاعة حسب صاحب الشركة فيريدون قص أقدام الناس لتناسب مقاسها ما يبعيونه للناس.

ولكن كل هذا لا يعفينا من مسؤولية ترك هذا المجال (السياسي) لذلك يجب الإنخراط العضوي الفاعل ضمن المنظومات السياسية التي تقوم على أسس قوية وفكرية واضحة سواء كانت يمين ام يساراً، وأن نلتزم بالتقاليد السياسية الصارمة التي تقوم على أسس ومعايير مضبوطة.
وأن نتمعن في مسيرة التاريخ بدلاً من الركون للواقع الذي أفرزته شروط سياسية أنعشت حشرات الخريف، وحولت الناس إلى غوغاء يخلط فيها طالح العمل بجليل القول وأن نغرس هذه الشروط ونجبر الجميع بالعمل من خلالها، وهذا لن يتحقق بالعزوف أو بالركون وإنما بالإنخراط المسؤول الجاد.

على هذا الجيل الذي بدأ يلتمس دربه أن يستلهم من تاريخه الإجتماعي تلك الشموس الخالدة لتضيء له عتمة هذه السنوات وأن يعلم بأن تاريخنا السياسي له نجوم نستلهمها في فلوات الزيف هذه، ولنا في جمال محمد احمد إرث وأثر.

حسان الناصر