رأي ومقالات

مهرجان النقد للجميع

وسط هذه الأجواء الرمضانية المعبأة بالروحانيات المريحة للنفس والطقوس المبهجة واللمة حول مائدة الإفطار والسحور، ينطلق سباق الدراما والإعلانات ضمن هذا الركب المهيب، وحين كنا صغارًا لم نتعرض لهذا الزخم من المنتجات المرئية والمسموعة، بل كنا ننتظر بشغف مفرط مسلسل رمضان وبحد اقصى مسلسلين فضلا عن الفوازير التى تربعت على عرشها الفراشة الاستعراضية نيللي، وتلتها الأيقونة الفنية شريهان، وما بينهما نجم الكوميديا سمير غانم “فطوطة “.

وبالتدريج تراجعت الفوازير بعد أفول نجومها، واعتلى المسرح نجوم جدد مثل الفنانة الرقيقة هالة فؤاد – رحمة الله عليها – والفنانة صابرين، ثم شرين رضا وجيهان نصر، وكلها محاولات متواضعة لم تضف الكثير في عالم الفوازير.

بينما اختص الراحل العبقري فؤاد المهندس بفوازير الأطفال “عمو فؤاد”، بالإضافة للإعلانات التى تسبق المسلسل “آلو مصر للتأمين المسلسل إمتى؟.. حالا “، حتى الإعلانات التجارية الخاصة بالسلع والمنتجات كان لها مذاق خاص، حتى إننا ما زلنا نتذكرها إلى الآن رغم كل تلك العقود.

ولا أعلم ما إذا كان السبب يرجع إلى حالة من النوستالجيا التى تدفعنا بقوة إلى الوراء؛ حيث مرحلة الطفولة بكل ما تحمله من نقاء وعفوية وألفة وعنفوان وفضول، وارتباطها بالأسرة، وكأن الإنسان كلما ارتفعت قامته فوق سطح الأرض ابتعد عن الجذور وتشابك مع فروع أخرى، ولما لا والعلاقة العكسية واضحة جدا كلما كنا صغارًا وقصار القامة كنا أكثر ارتباطًا بأسرنا وأهلنا وذوينا، وكلما كبرنا ابتعدنا وتشعبنا دون تشبع!!

أما ما نتعرض له الآن من زخم وزحام في الدراما والإعلانات فربما يصيبنا بتشويش حسي، وارتفاع في ضغط المتعة، وتخمة في المشاهدة، وكأن الحكاية تحولت إلى “سيزون” للربح وتحول المشاهد بقدرة قادر إلى جزء أصيل في العملية التجارية.

بينما يدخل النجوم في مزاد لأعلى سعر، وتتحول المشاكل السنوية إلى صراع للحصول على أعلى أجر، ومن تبقى من تلك الصراعات يسعى جاهدا إلى اللحاق بأي إعلان “على ما قسم” المهم يظهر بطلته البهية على الشاشة الفضية بصرف النظر عن المحتوى المقدم أو المضمون المعلن، حتى نجد نجوما كبارًا يقومون بالإعلان عن منتجع بالساحل الشمالى منذ 4 أعوام، وحين أمر من أمامه في الصيف اجده رمالا تتلقفها الأمواج وكأنهم يبيعون السمك في الماء!

وطبعا المشاهد الغلبان حين يجد مثل هؤلاء النجوم يعتقد أنهم سيصبحون جيرانه فيسعى جاهدا للحصول على وحدة في هذا المكان، وفقا لقوة دفع الخيال بمزيد من الامتنان.

ولكن قد تأتي الرياح بما لا تشتهي النجوم، وقبل أن يصيدوا الجمهور في شباكهم، اعتلى هو الشبكة العنكبوتية ونصب نفسه مشاهد بدرجة ناقد، وتحولت حسابات وصفحات أهالى التواصل الاجتماعى والكواكب المجاورة إلى معلقات للنقد، وصار كل منهم يدلي بدلوه فيرفعون نجومًا ويسقطون نجومًا وفقا لرؤيتهم الشخصية المبنية على الفهلوة الافتراضية، وهو ما يثير الدهشة المركزة، خصوصًا أنه لم يمض الأسبوع الأول من الشهر الكريم وهو ما يعني أنهم يحكمون على أعمال فنية من خلال بضع حلقات، بما لا يمت بصلة إلى منهجية علمية ولا خطوات بنائية، هي فقط تعتمد على اجتهادات وميول شخصية.

ولأن السوشيال ميديا “غرفتين بمنافعهم”، وبلا سقف أيضًا، فالكل مكشوف، وهو ما يثير شهوة الثرثرة عند الجيران وتجد الغالبية تتبارى لتقدم طبقًا دسمًا من النقد المهترئ على موائد الدراما الرمضانية المنصوبة على قارعة الشبكة العنكبوتية.

وهو العبث بعينه، فقد أتفهم أن أعلن عن اهتمامي بمسلسل أو محبتي لفنان ما وربما أنسخ تعليقًا عن جزء من حوار استوقفني في أحد الأعمال لأنه يتماشي مع توجهاتي وأفكارى وربما يمثل جزءًا من حياتي، لكن النقد يا سادة علم في حد ذاته قائم على دراسات وخبرات وخطوات علمية ولم تكن أبدا تكهنات وفضفضة، ولكن يبدو أن المشاهد قرر يعاقب النجوم على طريقته بعد تسريب قائمة الأجور.

وهناك فرق شاسع بين النقد والتذوق، فالأول ليس من اختصاصك والثاني من حقك، وكما قال العالم الألماني يوهانس كيبلر: أنا أفضل النقد الحاد من شخص واحد ذكي على التأييد الأعمى للجماهير.

د. هبة عبدالعزيز – بوابة الأهرام
2023 638197587782921898 292 main