في منصات الجمال بيننا خائن للسودان يارفيق
لا حرج ، أن يستأنس المرء ، بتعبير من تعبيرات أصحاب السبق والريادة الحاذقين في الإبداع الكتابي ، والإستقاء من نصوصهم الطامحة بالمعاني المشرقة .
الإقتداء بالأكابر ، أوالإغتذاء من أوردة منجزاتهم في سبيل الإستدلال ، هو في ظني ، أنفع وأمتع لحواري من أمثالي ، سالك للطريق أوسادن في محراب جمالياتهم .
عليه أفيد قارئي ، أن في الشارة العليا لمقالي هذا ، يلتمع ” تناص ” من ” نص ” شعري لأديبنا الكبير ” محمد مفتاح الفيتوري ” واقفا بمتعة عند قوله :
” بيننا خائن يا رفيق ،
ﺃﻧﺎ ﺃﻭ ﺃﻧﺖ ،
ﻓﻠﻨﻘﺘﺮﻉ ﻗﺒﻞ ﺑﺪﺀ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ، ﻣﻠﻚ ﺃﻭ كتابة ”
و” الفيتوري ” فارس من فرسان القصيدة العربية الحديثة ، يمتاز شعره بحالة فكرية ثرية صافية التفلسف والمنطق ، وجمالية بلا فجاجة في الشكل ، تزيد قيمته الفنية سموقا وعلو ، وكذا أيضا نجد ذات الصفاء في مقالته النقدية ، وكتاباته النثرية الأخرى المتنوعة .
” الفيتوري ” شاعر أديب ، علمي ، فلسفي أخلاقي ، ظل وباستمرار ، يؤكد أن المبدع ، ليس فردا ، بل إن فرديته تمثل حياة أمته ، ومسرى حضارتها . يعيش صيرورة القيم في حياتها الإجتماعية ، والجماعية ، فيرى الصحيح منها والمعتل .
فالإبداع الثقافي عند الفيتوري ، أجده ، كما ، وجدته من قبل عند الأديب المصري ” عباس محمود العقاد ” الذي قال :
هي الصناعة التي تعلمنا كيف نزرع حياتنا جميعا ، وكيف نختار لها أحسن ثمارها ، وكيف نستخرج منها أوفى بركاتها ، أو هي الصناعة التي نستحي بها الحياة ، في أوطاننا .
وعليه ، يمكن القول ، أن المبدع الثقافي – في جميع أجناس وأشكال الإبداع – جوهر وظيفته ، هو أن يؤدي دور المحرك والمحفز في شعبه وكتلته الإجتماعية .
أولا ، يساعدنا لكي نفهم كيف أستطعنا الوصول إلى هذا الدرك الأسفل من الإرتباك والضياع – حسب الشاعر الفرنسي إيف بونفوا – لا بل إلى هذا الدرك من البؤس السائد اليوم على جميع أنحاء كوكبنا ، بغية أيجاد دواء ناجع لوضعنا المؤسف .
ذلك من خلال إشتغالاته ، على رسم المعادل الموضوعي للواقع ، ومشهدياته وظروفه . وإنتاج المعنى العميق للوطن بعثا للإيمان به ، والإنتماء إليه . ومكامن حضور المعنى نفسه في حيوات الناس بتوتراتهم وتناقضاتهم وتقاطعاتهم في المنجز الإبداعي بوصفه البديل المقترح .
على ذلك الأساس يثبت أن ثمة معنى للوطن ، ويذكرنا بأن لنا ” ذات ” ، أو ، في حال نقص شعورنا بهذا ” الذات ” .. وذهبنا في إتجاهات مناقضة لها ، تماهيا مع متطلبات ومصالح ” ذوات ” أخرى .
فالفنان ، أو المبدع الفكري هو من يقرر بمقترحه الإبداعي كيف نستعيد ذاتنا المستلبة التائهة ، هو الأنصع رؤيوية والأمضى في فتح سؤال الإنتماء ، لا في محتوى منجزه الإبداعي فحسب ، بل حتى من خلال مواقفه تجاه كل ما يجري إزاء بلده ، أينما كان موقع وجوده تلك اللحظة من إنعطافة التاريخ في البلد .
كيف يمكن للمبدع الفنان أداء هذا الدور ، وإجابة لهذا السؤال ، نستحضر ، نموذجا من النماذج العليا لأحد المبدعين المصريين . وهو الممثل الفنان الكبير المتعدد الموهبة ” محمود مرسي ” ، إذ ، يذكر له التاريخ – حسب أكثر من راوى – أنه ذهب إلى ” لندن ” عاصمة بلاد الإنجليز ، بحثا عن الرزق وتحسين وضعه المعيشي ، فعمل في هيئة الإذاعة البريطانية BBC ، وبعد سبعة شهور من تعيينه فقط ، حدث العدوان الثلاثي عام 1956م ، على مصر ، وتعد بريطانيا أحد أقوى أضلاع ثلاثي العدوان على مصر .
في تلك الأثناء ، والحرب تدور رحاحها في مصر ، إنتهز الفنان ” محمود مرسي ” لحظة تقديمه لإحدى البرامج على الهواء مباشرة ، ونهض خرجا عن النص المفترض تقديمه للملايين من المستمعين في ذلك الأوان فقال :
” إن هذه هي أخر حلقة اقدمها في هذه الإذاعة ، حيث أنه لا يمكنني أن أعمل أو أقيم في دولة تشن حالياً عدواناً على بلادي – مصر – وتلقي قنابلها على أهلي .
ولتلك الأسباب أقدم استقالتي على الهواء ، وسوف أعود إلى بلادي أقاتل بجانب أهلي ، أعيش معهم ، أو أموت معهم ” .
من الذي أجبر الفنان المبدع ” محمود مرسي ” أن يقف ذلك الموقف ويقول تلك الكلمات ، أثناء أداء واجبه الوظيفي في الإذاعة البريطانية ، قطعا لم يجبره أحد – على قطع رزقه ومعاش أبناءه –
سوى ضميره الحي ، وشخصيته الصاعقة الإنتماء لمصر ” الذات ” أرضا وشعبا وهوية ثقافية .
بذلك الموقف أثبت ” محمود مرسي ” مسؤوليته تجاه بلده وأهله ، بوصفه إنسان ، تملي عليه إنسانيته أولا ، أن ينحاز إلى حق وطنه في العيش الكريم ، وكفنان مبدع له مسؤلية تجاه ذاته .
ذلك هو الفنان الإنسان ” محمود مرسي ” الذي قال عنه الناقد ” كامل الشناوي ” :
” كان فنان مطابق للمواصفات ، حر ، جريء ، شجاع صاحب رأى وموهوب ”
هكذا حفظ النقاد في مصر ” الذات ” لإبنهم الفنان المبدع ” محمود مرسي ” موقفه تجاه الوطن والإنتماء إليه ، لا في منجزه الإبداعي فحسب ، بل في مواقفه الحياتية الخاصة ، التي لم يفصلها عن متطلبات الإنتماء الوطني وضرورات واحب الوقت في التضحية والتسامي فوق خصوصياته الفردية، لصالح الجماعة والكتلة الإجتماعية التي شكلت شخصيته .
فمصانعة الإجنبي على أي مستوى من المستويات هي جريمة نكراء ، وخطيئة لا تغتفر .
هي خيانة للوطن ، والكيان ، تاريخا وثقافة وتضاريس جغرافيته .
نقرأ ذلك ، ونماذج أخرى لفنانيين مصريين وعرب آخرين ، يحملون بلدانهم ، في وجدانهم أينما ذهبوا ، وفي أقوالهم وأفعالهم ، خاصة عندما يدلهم ليل ليظلم الشعب بظلامه . لن تجد فيهم من يتنكر لشعوره الإنساني في سبيل الدرهم والدلار ، ولا من يخون ” الذات ” لصالح ” ذوات ” أخرى .
الحس الوطني الجياش الذي رأيناه في ذلك النموذج الأعلى للفنان محمود مرسي وغيره من المبدعين الآخرين – لا يسعنا ذكرهم – ترى أي مقدار منه بلغه الفنان السوداني في وقتنا هذا ، عصر الخيبات الكبيرة والأوجاع .
هذه اللحظة المربكة من تاريخ السودان ، إذ تتهاوى عليه معاول الأجانب وتعمل هدما وتخريبا وتهشيما لهيكل بناء شخصيته الثقافية ، وطمس ذاته ، من خلال تدمير الأبنية والصروح العلمية والثقافية والمتاحف ، باجتياح عسكري دولي طاغي بأمواج لامتنهية من مليشيات الجنجويد عربان شتات صحراء غرب إفريقيا .
في هذا الوقت ، يا صاح ، كم ترى لدينا من الإعلاميين السودانيين المستنيرين ، الذين يملأون فضائيات تلك الدول الغازية لبلدنا ، عاملين مخلصين لسياسات ، وأهداف تلك الفضائيات والقنوات التلفزيونية التي تعمل بمنهحية في تدمير السودان ؟
كم ترى منهم في اليوم والليلة ، يقف بزهو وافتخار أمام كاميرات تلك الفضائيات ، ويرمى بنبال وسهام الكلام في ظهر القوات المسلحة السودانية ، وطعنه بكل رمح مسموم ؟
كم من أبناءنا الآن ، في قنوات وفضائيات دول عرب الخليج من الذين أظهروا عداءا للسودان ، وبغضا ، يصانعونهم ، ويظاهرونهم ، ويزيفون معهم كل حقيقة ، دون أي عقدة ذنب .
أولئك الاعراب الذين ساءهم أن يعيش السودان وطنا خصبا بالخير والنماء ، شعبا كريما ، وجيشا جسورا .
سودان حر ، كما خلقة الله وأراد له ، أن يكون ، لا يذل نفسه إلا لله الواحد الأحد القهار .
فوق ذلك الفجور كله ، وفحش الخصومة من بعض أولئك الإعلاميين السودانيين الذين إنكسروا أمام انانيتهم الخاصة ، وأنهكوا أذهانهم بالإشتغال على محاربة وطنهم شعبا وجيشا ، بمواقفهم المتآمرة بلا حدود مع الأجنبي الدخيل ، وثمة في وطنهم شعب بأكمله يقتل ، وتنهك حرماته .
ونجد طائفة آخر من المغنيين ، والمغنيات يجوبون طرقات وشوارع عواصم تلك الدول ، يصعدون خشبات مسارحها ، غناءا وتطريبا . في ديار أولئك الذي دفعوا بلادنا لأكبر فتنة ماحقة في تاريخه ، كانوا ولا يزالون هم سبب العذابات التي نعانيها .
إن ما يمارسه بعض المشتغلين بالإنتاج الإبداعي الثقافي من أبناء السودان ، بالخروج عن الإنتماء الوطني – وهم قلة قليلة – إلا أنه أمر مثير للرثاء حقا . لا يمكن القول ، غير أنهم أصحاب ذوات معطوبة ومعوقه ، نفسيا وفكريا ووجدانيا وروحيا .
ذوات هلامية شبحية ، مصيبتها الكبرى أنها لا تعرف معيارا قيميا ، ولا تحترم ثقافتها الوطنية ، ولا تعتز به ، ولا تدافع عنه .
والمبدع بتلك الصفة أصلا ، يعاني من داء فقدان الثقة في الذات ، سواء في بعده الفردي أو الجماعي ، أو في مستواه الواقعي أو التاريخي .
فهو لا يتحرك إلا في إتجاه نسيان ذاته الثقافية ، وأن يقفز عليها ، وأن يكون دائما مع الآخر .
وأن يتخلى عن مركزه الحقيقي ، مشيا باتجاه المراكز الوهمية .
ما هي قيمة ، الإبداع ، إن لم يناضل مدافعا عن القيم ، إذ ليس أضر على الأمة شيء أقبح ، من أختلال سلم القيم ، أو فقدانها له بالكلية – كما قال ذلك محمد الفيتوري – لأن الحضارة تنشأ من مراعاة المحرمات التي تضر بالجماعة .
وأكبر تلك المحرمات ، هي مصانعة الأجنبي ، على مصالح الأمة ، لأن هذا يقويه ويضعفها ، ويحدث من أسباب الشقاق ما لا محل معه للمصالحة والمهادنة ..
” إِنَّما يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلوكُم فِي الدّينِ وَأَخرَجوكُم مِن دِيارِكُم وَظاهَروا عَلى إِخراجِكُم أَن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ ” ..
بيد أننا ، وفي هذا المنطف التاريخي التاريخي ، نقف بإجلال كبير أمام الجزء الأكبر من المبدعين السودانيين الذين يقفون على قمم مشرفة على سهول الإشتغال الإبداعي الثقافي ، من اللذين لا ينام على ضيم للوطن وأهله وجيشه . ليس من سبيل الآن لذكرهم أسما ، أسما ، ولكن يمكنني أن أضع في صدارة القائمة الكاتب الروائي ذلك الجمالي المبدئي ” عبدالعزيز بركه ساكن ” الذي
وقف منذ اليوم الأول للغزوة ، ون حيث موقعه في ” باريس ” ليقدم درسا في الثبات على الإيمان بالوطن ، وأن مستقبليته هو قدرتنا على الصمود أمام كل ما يهدده ويهددنا من ويلات وبشاعات …
ليقول مبدعا قوله ” ثمرة الجنجويد هي الخراب ” :
” ليس من السهل أن تصدق شخصًا ، بأنه يريد لك الخير وقد :
أخرجك من بيتك وعاث فيه خرابًا .
سرق عربتك ، وارتدى ملابسك ، وعبث بذكرياتك وتبول على مخدعك .
ثم قتل صديقك واغتصب جارتك
ثم ، حرق مؤسساتك المدنية والعسكرية حرق القرى الآمنة .
قتل أعيان بلادك ، وارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وشرع في أبادات جماعية .
سفك دم مواطنيك هجَّر مليونين من السكان المدنيين .
شرَّد ملايين الأسر فرض حصارًا حولك ونصب مدفعًا في كل شارع وزقاق وطريق ، جوعك وأفقرك وأسرك واختطفك وجرحك ، وسرق البنوك وما حوت الأرض من ذهب وخيرات .
ثم رقص على جثث الشهداء وطلب منك أن تغني له طربًا !
أهذا عدو أم صديق ؟
أهذا شيطان أم ملاك ؟
أهذا رسول خير أم ناعق شر وشؤم ؟
أهذا جنجويدٌ أم إنسان سوي ؟ ”
عبدالعزيز بركه ساكن ، كما هو معروف عنه – وكما قلت عنه في مقالي السابق – أن الكتابة عنده ليست بهرجا لفظيا وإنما هي مفتاح لكثير من الحقائق الإنسانية .
فكتابة الرواية عنده دائما هو بحث عن الجواني الغائر ، اللب ، العمق ، الجوهر ، والذي هو نفسه الظاهر البعيد المنال .
القلم عند عبدالعزيزبركه ساكن ، خرق وتمرد وخروج عن المألوف ، مروياته ، هو ذا الحزن على بلد سحائب الدم مازالت تهدر حوله ، وهو ، ذا الاحتراق الذي في الحشا .
و ” مسيح دارفور ” ، ، هي المعاني التي صعد بها فوق الجراح ، وأرادنا بها أن ندرك المعاني وأن نبصر حبات الدموع التي نزرفها على حواف الرواية .
قال عبدالعزيز بركه ساكن في تعريف الجنجويد :
” قوم عليهم ملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء والتشرد ، على أكتافهم بنادق تطلق النار لأتفه الأسباب ، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية ، لا يفرقون مطلقا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى ” الكلاب الضالة ” وتعرفهم أيضا بلغتهم الغريبة ” الضجر ” وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات ، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف ليس من بينهم معلم او متعلم ، مدير أو حرفي .
ليست لديهم قرية أو مدينة أو حتى دولة .
ليس لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم ” ..
وقال مصدرا روايته ” مسيح دارفور ” :
” أهونُ لجملٍ أن يلِج من ثُقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله ”
صور ” بركه ساكن ” صورة الجنجويد ومعناه في روايته التي صدرت قبل سنوات عديدة ووقتها إشتد الجنجويد على أهالي أقليم دارفور ، إبان نسختهم الأولى المعروفة في أوراق الحكومة رسميا باسم ” حرس الحدود ” ..
وهي ملشيات قوامها القبائل العربية من إقليم دارفور ثم تحول الاسم الرسمي الأول ” من حرس الحدود ” إلى نسخته الثانية والجديدة في العام 2013 رسميا إلى قوات الدعم السريع .
ذلك هو معنى أن تكون مبدعا جماليا ثقافيا ، تهتز الأرض ، تتساقط الأبنية والأشياء ، غير أن المبدع ، ثابت في المكان ، فهو روحه الأوحد ، وذاته .
كما ذهب بذلك المعنى الكاتب المسرحي المغربي عبدالكريم برشيد قائلا :
” روح المكان يبقى وفيا لذاته ، ولتاريخه ولثقافته ولأخلاقه ولطبيعة مساره الوجودي ، ويمكن ان نجدد أفكارنا ، وأن نجدد علاقتنا بذاتنا وبالعالم ، ولكنه أبدا لا يمكن أن نكون نحن غير نحن ، أو أن نخون الجغرافيا ، ونخون التاريخ ، ونخون الزمن الآتي ، والذي ينبغي أن يكون أجمل وأكمل ، وأن يكون أكثر صدقا ومصداقية ، وأن يكون أكثر اقناعا وامتاعا ” .
لأمر مؤلم أن لا يملك المرء شعورا وطنيا إزاء بلاده ،
ويمشي مواليا الغزاة الأجانب ، إنه الألم في حد ذاته .
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله