رأي ومقالات

حرب إبريل في السياق التاريخي السليم!


من السهل أن يمسك الشخص ورقة وقلم ويدون نقاطا حول المطلوب في النظام السياسي في دولة ما، أو أن تأتيه ورقة من دولة أو جهة أخرى للتنفيذ مع وعود وتمويل، ولكن تظل هنالك معادلات وقواعد فولاذية في الواقع لا يمكن تغييرها بالخطط والأوراق، والأولى هو دراسة تركيبة الدولة، وتحليل تاريخها، لأن الدول غير متشابهة وليس سهلا تنفيذ ذات الوصفات فيها.

من الضروري التحقق من تطورات السودان الراهنة بوضعها في السياق التاريخي، حتى نتعرف على تركيبة الدولة السودانية وما يمكن أن تنتجه (بناء على الموجود فعليا فيها وليس المطلوب والمرغوب منها) وأيضا حتى لا نقع في حبس الفترة الزمنية التي نعيشها وما يوجد فيها من توقعات الداخل ورهانات الخارج.

1- على أي أساس قامت السلطنة الزرقاء في السودان واستمرت لأكثر من 300 سنة حتى العام 1820؟ الجواب: كونفيدرالية، يحكمها مزيج صوفي إسلامي عشائري. ولكنها تفككت داخليا بصراعات قبلية وسلطوية داخل الأسر الحاكمة.

سلطنة دارفور كانت مشابهة لها في التراث، مع الفارق أنها كانت مركزية.
كلاهما وضع الأساس لمسار تشكيل الثقافة السودانية ولكن لم يتطور الأمر إلى آصرة قومية، نحن لا نزال في بدايات تشكيل الدولة السودانية.

2- على أي أساس اندلعت الثورة المهدية في الجزيرة أبا النيل الأبيض 1881 وطردت المستعمر و وحدت السودان في أربع سنوات فقط؟ الجواب: مذهب إسلامي جهادي تطور من النسخة الصوفية الموجودة. ولكنها عندما انحدرت الدولة في التسلط الجهوي سقطت. تركت الدولة المهدية -بالرغم من سوء أيامها الأخيرة- أثرا كبيرا ومن نماذجه العاصمة الوطنية والمحضن الثقافي أمدرمان، وكانت خطوة للأمام في صناعة الآصرة القومية السودانية، وظهر نوع جديد من الشعر والغناء وأنماط جديدة في التفكير والثقافة.

3- في فترة النضال من أجل الاستقلال، لماذا قامت الأحزاب السياسية السودانية على أساس طائفي إسلامي؟ بينما تشكلت الأحزاب في الجارة مصر وعدد من الدول في المنطقة على أساس التنوير والتحرير؟ الجواب: السودان دولة قيد التشكيل والتطوير، بينما توجد في مصر حينها دولة حديثة وآصرة قومية قديمة ومستقرة، والتوجه الاسلامي في السودان كان يشكل أساسا للوحدة الوطنية، ولذلك يوجد احتياج له، ليس بفعل فاعل خارجي، ولا صلة له بظهور نسخة الاسلام السياسي، كل له ظروف مختلفة تماما.

4- فشلت فكرة إلحاق السودان بالآصرة القومية المصرية لأن الاستعمار الانجليزي حكم السودان عشائريا (الادارة الأهلية) وأورث الحكم الوطني للأحزاب ثم الجيش، وأنجز الاستعمار تأسيس خدمة مدنية حديثة وتصميم المدن والمشاريع ولكن ظل المجتمع كما هو، في طريق البحث عن آصرة قومية، وهذا يختلف عن شمال الوادي.

التحدي الماثل في السودان، في سياق صناعة الآصرة القومية، هو الإقرار بأنه لا بد من البناء على (الرابط الموجود) وهو التوجه الاسلامي ثم إضافة عناصر عليه.

5- قامت الدولة الشيوعية المعادية للتوجه الاسلامي بنوعيه الحديث المنظم والتقليدي الطائفي في 1969 لمدة سنتين، ونشب داخلها صراع، وانتهت بمذبحة بيت الضيافة ثم بإعدامات قيادات الحزب الشيوعي. كانت تلك فترة سريعة وعاصفة، ولكنها أكدت فشل المشروع الخارجي وضرورة العودة للتركيبة الموجودة.

بل بعد سقوط النميري والذي أعلن الشريعة الاسلامية في 1983، جاءت الديموقراطية وكان برنامج حزب الأمة هو (الصحوة الاسلامية) و نشر الحزب الاتحادي في الانتخابات كتاب (الجمهورية الاسلامية) ثم بعدهم في الحجم (الجبهة الاسلامية القومية).

6- قامت الانقاذ في 1989 على توجه إسلامي جهادي لعشر سنين، ثم إسلامي براغماتي لما بعدها، ولكن اعترت الانقاذ ردة جهوية (ارجع لسلسلة مقالاتي في 2012 هل المؤتمر الوطني حزب فاشل؟) بدأت مراكز القوي و (الشلليات) تحارب بعضها وأفضى هذا إلى عمالة وارتزاق وحكم فرد وسقطت الانقاذ مثل سنار والمهدية والأحزاب الطائفية، ولكن استمرارها لفترة طويلة 30 عاما يؤكد أن الاصرار على الاعتماد على التركيبة الموجودة في السودان يعزز فرص الصمود.

7- جاء التغيير في 2019 مؤسسا على مبدأ (سقوط التجربة الاسلامية يعني سقوط التوجه الاسلامي) وبالتالي كان يجب أن يدين السودان لسيطرة البديل التحرري التنويري المقبول خارجيا (قحت). لكنها كانت فترة مضطربة لتناقض مكونات البديل داخليا، وتضارب الاستقطاب الخارجي، و وصل الأمر لصناعة قوة استعمارية استيطانية بدعم من دول اختطفت جزءا من البديل، وكان رأسمالها الدولي هو رفض التوجه الاسلامي في السودان، لكن الحقيقة أنها ترغب في تشكيل الدولة السودانية لتكون تابعة لها ومنفصلة عن محيطها وبالذات مصر في توافق كامل مع الأهداف الاسرائيلية، وكان هذا أسوأ مشروع استعماري يمر على السودان.
الخلاصات:

أولا: التوجه الاسلامي في السودان عامل تأسيس وصمود مهم جدا، وذلك لعدم وجود آصرة قومية مستقرة، إذ يعتبر (الرابط البديل) لتتشكل حوله عناصر الوحدة الوطنية، تماما مثل المذهب البروتستانتي في تأسيس المستعمرات الأمريكية إلى حين الاستقلال من بريطانيا وصناعة الدستور، ومثل الكالفينية التي قامت عليها أول جمهورية في أوربا في هولندا.
ثانيا: ثبت أن أخطر أدوات تقويض مسيرة تشكيل الدولة السودانية هي الجهويات والمشاريع الخارجية وحكم الفرد وليس التوجه الاسلامي.

ثالثا: الحديث عن تشكيل الدولة السودانية الحديثة ليس منقصة في حق السودان، ولا يناقض وجود مجتمعات سودانية (غالبها) يتميز بسمعة دولية في الأمانة الاخلاق والتكافل، ولذلك تأسيس الدولة لا يعني البداية من الصفر الاجتماعي، ولا يعني عدم وجود للوطن، بل هو الوعاء الذي يشمل هذا المجتمعات السودانية المترابطة.

رابعا: باعادة النظر للحرب في السودان نجد أنها تطور في ذات السياق، لأنها أكدت فشل (مشروع جهوي – خارجي) كبير جدا، ورغم أن الثمن باهظ، ولكن النتيجة ستكون لصالح تشكيل الدولة السودانية الحديثة بناء على المكونات الداخلية وعلى رأسها (التوجه الاسلامي) فهو ليس صناعة تنظيمية، أو سلاح مؤقت ضد المليشيا، بل هو عامل ملازم في كل العهود إلى حين إكتمال الآصرة القومية على الوجه المطلوب.

مكي المغربي