رأي ومقالات

يا مهنّد.. كل شئٍ كان أصيلًا وخالصًا

يا مهنّد.. كل شئٍ كان أصيلًا وخالصًا
“أو أنت القادمُ عند الفجر إلى أرضِ فلسطين؟!”
أنا مِن الملايين مِن أبناء شعبك ممن لم ينالوا شرف لقائك ولا الحديث إليك.. لكنّي -مثلهم- أحببتك. ومثلهم كذلك؛ أبصرتُ بين جوانحك الصدق -الذي لا تُخطئه العين-، وترآءت لي على محياك الرسُوليّ معاني: النُبْل، والطاهرة، ونقاء السريرة. وكنت كذلك مِن بين مَنْ أتاهم صوتك الساطع مِن زخْم المعارك وساحات الوغى عبر الأثير يحملُ البشارة والطمأنينة.. فشعرتُ -كغيري- أنّي مدينٌ لك بحياتي.
يا مهنّد.. كم كنت كبيرًا، وعاليًا، وجليلًا، وحرًّا، وساميًا، وشريفًا، ووضيئًا، وملحميًّا.. لا تثرثر ولا تكثر القول ولا الظهور.. تفعلُ ما تفعلُ عن إرادةٍ حرّةٍ. ولا تلتفتُ في دربِ المسير المقدّس لقولِ مخذّلٍ أو خائنٍ أو جبانٍ أو وضيعٍ أو خرّاص. كنت غنيًا بنفسك، قانِعًا بما عندك؛ تفعلُ ما تفعلُ لله.. ولا نرى منك بعدها سوى تلك الابتسامة الراضية النورانية الوضيئة التي ترتسمُ على محياك.. يكسوها الخجل الطفولي، وكبرياءُ الرجال العظماء.
لم تكن بأعيننا مجرّد مقاتلٍ شجاع.. كنت أبًا وأخًا وابنًا لنا جميعًا. وأمس ودعناك كما ولو أنّ نعشك الطاهر خرج مِن كل البيوت، وكأنّما قبل مسرى روحك إلى السماء في موكبٍ إلهيٍّ طاف جسدك المُسَجّى المُعفّر بالبارود بأنحاءِ كل حيٍّ وقريةٍ، وكأنّما كل عائلةٍ شريفةٍ قد أحست بمرارةِ فقدِ واحدٍ مِن أولادها..
“الآن وهم يبكون
كأن ملايين الأرحام ولدتك
وأنّك عشت ملايين الأعوام”
كنت يا سيدنا أسطورةً حيّة؛ نراك تنهضُ مِن بعد كل إصابةٍ أقوى من ذي قبل؛ لا تبرح.. ولا تترك جسدك لاستجمامةٍ أو راحة.. كأنّك (وحدك) المنُوط به الوقوف في وجه العاصفة.. أذكرُ مرةً كيف تمزّقت قلوبنا اشفاقًا وحزنًا عليك؛ حين أكتشفنا -مصادفةً- ونحن نتابعُ تسجيلًا مرئيًّا لك أنّك فقدت إصبعان من يدك اليمنى ومع ذلك لا تهتم! -وأظنّك في ذات المقطع المسجّل كنت تتعمدُ إخفاء إصابتك عن أعين القمرة؛ لأننا بالكاد أبصرناها ونحن نكرّر تدوير المشهدِ عشرات المرات لتفحّصه- لا غرو في هذا الخلق مِن مثلك؛ ففي كتم الأوجاعِ كرامة، ومِن كمال الصبر إخفاء البلاء، ومِن كمال التنزّهِ عن أغراض النفس وهواها في استدرار العطف حملها على إبقاءِ مصابها بينها وبين خالقها. ومع تقطّع شئ مِن الأوصال -ببتر إصبعين- لا زلت تُقاتل، ومع ذلك لا تفارقُ الابتسامة ثغرك المُشرق الصبوح!
أظنّك -وليست كل الظنون آثمة- أنّك مِن طينة الأنبياء الخُلّص؛ لم نرك عند موائد المتخمين، ولم تكن ممن يزاحمون أمام الكاميرات، لم تجمّل حتى صوتك لإذهابِ نحنحة؛ بغية تباهٍ أو إِضْفاء أَلقٍ، لم نشاهدك ضمن صفوف الغانمين أو زمرة المانين.. كنت مهذّبًا وقورًا رادًا الفضل لله ورسوله حتى عند لحظاتٍ النصرِ وخمر نشوتهِ المُسكِرة!
علّقت المسبحةَ على عنقك، ووضعت الكوفيةَ على كتفيك؛ لأنك تعلم أنّ كل ما يجري يُنبئُ بدُنُوِّ معركةٍ كبرى؛ معركة فاصلة.. يبرزُ عندها الخير كله -الله وأوليائهُ- في مواجهة الشر كله -الشيطانُ وأوليائه-. وأنّك في فصلٍ من فصولها تُقاتل الصهاينة ووكلائهم -في صورةٍ من الصور ووجهٍ من الأوجه-.. فلماذا إذًا تعجلت الشهادة؟ ربما لأنّك استصغرت شأنك -تواضعًا-؛ غاب عنك أنّ أمةً بأسرها مِن المستضعفين والمنكسرين والمحرومين والمكلومين كانت تتكئُ عليك، وتدخرك ساعة سقوط الحصون وتنكّس الرايات؛ عند يباس الحلوق وتشتت الأذهان.. بينما الرعبُ ينهش الأجساد والأفئدة. فمن لهم من بعدك! إلا أنْ يقيّض الله لهم من أمثالك رحمة منه وعدلا.
يا ابْن أُمّ.. لا يعوضنا في فقدك نصرٌ مأمُولٌ، ولا يُعزينا في رحيلك عزاءٌ موصُولٌ.. سوى العوض والعزاء أنّك مِن الفرحين بين يدي ربّك في جناتِ العُلى، وأنّ الوقت ربما قد حان ليتسريح الجسد الباسل المُتعب؛ والروح تتهيأُ للقاء بارئها وأحبابها راضيةً مرضية “فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر”.
“إنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون”

محمد أحمد عبد السلام