(للخيانة العظمى وجوه متعددة ، أين إنت يا إبراهيم جابر)

عزيزي القارئ، قبل أن تجهز قهوتك لقراءة هذا المقال، أتمنى أن تشاركه أولاً ليصل إلى مجلس السيادة. بعد ذلك أحضر خريطة لجمهورية السودان وبعض الدبابيس الملونة، وضع دبوسًا أحمر على كل موقع في السودان يصلح أن يكون وجهة سياحية. ثم دوّن في ورقة بيضاء أسماء المناطق التي شهدت تمردًا مسلحًا أو احتلالًا من حركات متمردة أو تعرضت لهجوم مسلح.
ستكتشف حينها أن قائمتك مطابقة تمامًا لمواضع الدبابيس الحمراء. هذه التجربة البسيطة تكشف بوضوح أن المؤامرة على السودان قديمة وعميقة، وأن أهم مواقعنا السياحية تحولت إلى أخطر معاقل التمرد، في تطابق يستحيل أن يكون مجرد صدفة.
أعد التجربة مرة أخرى عزيزي القارئ، لكن هذه المرة اكتب أسماء المدن والمناطق التي انعدمت فيها مقومات الحياة الأساسية أو جرى تهجير سكانها باسم “المصلحة العامة” قبل أن تُهمل تمامًا و ضع دبوسًا أخضر على الخريطة في كل واحدة منها. ستفاجأ أن هذه المواقع نفسها تحتضن أعظم آثارنا ومعالمنا التاريخية. هل يمكن أن تكون هذه صدفة أيضًا؟
السودان يا سادتي يملك مقومات سياحية استثنائية وتنوعًا طبيعيًا نادرًا وتاريخًا ضاربًا في القِدم، لكن قطاع السياحة ظل رهين الإهمال وسوء الإدارة و المؤسف أن حكومة “الأمل” التي عوّلنا عليها وضعت هيكلًا وزاريًا مشوهًا بدعوى تقليص الوزارات، فدمجت السياحة والآثار مع الثقافة والإعلام كما يفعل أصحاب البقالات حين يخلطون المطهرات مع المعلبات والفواكه مع الخضروات.
هذا الخلط المشوه ضيّع هوية كل قطاع على حدة، خصوصًا السياحة التي تحتاج إلى وزارة مستقلة برؤية اقتصادية واضحة واستراتيجية وطنية للترويج والاستثمار. فكل الحكومات منذ الاستقلال تعمّدت إهمال هذا القطاع الحيوي، رغم أنه يشكّل المورد الأول لاقتصاد دول أخرى يتجاوز تعداد سكانها مئة مليون نسمة، مع أن معالمها لا تساوي عُشر ما نملكه.
لقد زرتُ دولًا عربية وإفريقية، وكان كثيرون يسألونني عن مقرن النيلين. كنت أجيب بثقة العارف، رغم أنني لم أشاهده إلا عبر الصور أو من فوق كبري النيل الأبيض، حيث يقع المقرن في “زاوية عمياء”. فكم منكم رآه مباشرة؟ وأي عبقري ذاك الذي اقترح تشييد حديقة في هذا الموقع الذي كان يفترض أن يكون أيقونة سياحية عالمية وواجهة السودان الأولى؟ قرار كهذا لم يكن إلا طمسًا متعمّدًا لأهم معلم استراتيجي في البلاد.
وليس المقرن وحده، بل أيضًا جوهرة النيلين غابة السنط. هذه المحمية الطبيعية الثمينة صارت مأوى لتجار المخدرات والعصابات، وتركَتها الدولة نهبًا لمليشيات تجارة الأخشاب. مع أنها كانت مرشحة لتكون مزارًا بيئيًا عالميًا ومختبرًا للبحث العلمي والسياحة البيئية.
إهمال السياحة في السودان ليس خطأ عابرًا، بل خيانة عظمى لأنها تمس الأمن القومي. فالسياحة ليست ترفًا، بل مورد اقتصادي ضخم. والحديث عن “مؤامرة خارجية” وحدها يعكس قصور نظر، إذ إن هناك جهات داخلية فاسدة لا تريد لهذا القطاع أن ينهض، مفضّلة القطاعات الغامضة في البترول والذهب والجمارك، بينما السياحة قطاع شفاف، أرباحه واضحة ولا مجال فيه للمراوغة.
ما نشاهده على الشاشات من مشاهد احتساء القهوة وسط الحقول في ضواحي سويسرا، لدينا ما يفوقه جمالًا في نيرتتي وجبل مرة وقيسان والكُرمتة وهيبان. وما نراه في “العين السخنة” بمصر يمكن أن يتحقق بسهولة على شواطئ سواكن.
من هنا، نتوجه بنداء مباشر لمجلس السيادة، و بالأخص الفريق إبراهيم جابر، ليتدخل في ملف السياحة، باعتبارها وزارة سيادية ترتبط بالأمن الوطني والاقتصاد القومي. فالسياحة ليست قطاعًا هامشيًا يُلحق بوزارة فاشلة أصلًا، بل هي واجهة السودان أمام العالم. وأي إهمال لها هو خيانة عظمى وإهدار لثروة قومية لا تقدر بثمن. لقد كان لجهاز المخابرات خطوات جادة في هذا الملف، ورأيناها بوضوح في منتجع السبلوقة بالشلال السادس. فبلادنا تحتضن ستة شلالات عظيمة، غمر السد العالي اثنين منها في وادي حلفا، و تبقت أربعة شلالات وعشرات الجنادل الصغيرة، بينما جارتنا مصر لا تملك شلالًا واحدًا.
ارفعوا ملف السياحة إلى مستوى سيادي، أو شكّلوا مجلسًا أعلى للسياحة والآثار يضم أهل العلم والخبرة. افعلوا أي شيء، لكن لا تتركوا هذا القطاع رهينة لمن يظن أن الدراما مجرد لهو، وأن الإعلام مجرد صراخ، وأن السياحة مجرد ترف وترفيه.
نزار العقيلي






