يكفي النيل ابونا… النيل دا حده وين؟ مائة يوم في القاهرة (٦)

يكفي النيل ابونا… النيل دا حده وين؟
مائة يوم في القاهرة (٦)
من الكلمات المتداولة بمعدلات عالية في القاهرة كلمة (لوكيشن) Location وهي تعني الموقع في خارطة المدينة حسب (قوقل ماب) وقد تبناها السودانيون بسرعة… الواحد قبلما تكمل سلامك عليه يقول ليك اديني اللوكيشن بتاعك .. فالناس هنا تجاوزت حكاية.. وانت في الشارع الرئيسي تلقى دكان قدامه شولات فحم.. تخليه على يمينك.. تدخل اول زقاق يلاقيك… تعاين قدامك بتشوف ليك مزيرة فيها ثلاثة ازبار ألفي نص مكسور ……ومافيها( كوز) مربوط… بس اقيف جنب المزيرة دي واسأل من البيت… في زول مدروش كده دارع ليه مخلاية في كتفه بتحاوم بي هناك… دا ما تساله لانه بتوهك.. وهكذا.. ففي القاهرة اول حاجة تعملها تنزل التطبيق بتاع الخارطة دي ولو كنت مثلي قادي تقانة استعن بمن هو أصغر منك سنا لانه اكثر منك علما .. وبهذا تطلب سيارة الأجرة (عندنا ترحال) وبه تعرف أي مكان توده حتى ولو كنت راجلا….
قمة الرفاهية في التنقل داخل المدينة تتم عبر هذا التطبيق…. فأنت تطلب عبره سيارة الأجرة… وتحدد عبره المكان الذي تريد… فتاتيك السيارة في مكانك..و تاتيك أجرة المشوار ونمرة السيارة القادمة إليك ولونها..
الضرب الثاني من المواصلات العامة الباصات الكبيرة سعة الأربعين راكب وما فوق… وهي تغطي كل المدينة وبشكل مستمر فليس هناك اخر محطة وستات شاي والذي منه… الضرب الثالث هو المايكروبصات اي ما نسميه نحن الهايسات أو الشرائح… هذة لها مواقف رئيسة وتعمل في الطرق الفرعية وداخل الأحياء َهنا يمكن أن تضيف إليها التكتك اي الركشة… وهذة الهايسات تتيح للراكب ان يركب أكثر من مرة ليصل مبتغاه خاصة إذا كانت وجهته بعيدة.. أما ملك المواصلات فهو السيد المترو.. حيث السرعة وروعة التنظيم والنظافة والأمان وقلة الثمن…
اما الأسعار فهي متفاوتة جدا فالاعلي هو الضرب الأول اي الطلب والادني هو هذا الأخير اي المترو… هل تصدق لو قلت لك مكانا واحدا اتردد عليه ادفع ١٧٠ جنيها في حالة الطلب و٤٠ جنيها اذا ركبت المايكروبصات زائدا تكتك… و١٥ جنيها في حالة الباصات الكبيرة وثمانية جنيهات في حالة المترو ومرات أربعة جنيهات لان عمري فوق الستين ومعي بطاقة تثبت ذلك… فأنت تختار على حسب وضعك المالي وقدرتك على التنقل ووقتك….
قصدت من كل ذلك السرد الطويل المسيخ القول ان التنقل داخل القاهرة فيه خيارات متعددة (من ١٦٠ الي أربعة جنيهات)… وهذا لايقتصر على المواصلات بل الخبز كذلك فمصر أكبر مستورد للقمح في العالم ولكن لن تجد فيها أزمة خبز بل هناك وفرة وذلك لتعدد الخيارات.. فالنوع الفاخر قطعة الخبز فيه بجنيهين والخبز المدعوم الرغيفة بنصف جنيه… وبينهما ابو جنيه نص ثم ابو جنيه… بالمناسبة السودانيون يتعاطون هذا الخبز المدعوم بكل يسر… لذلك فهو في متناول الجميع وعلى ذلك قس.. كل المأكولات والمشروبات متفاوتة الأسعار.. وقد طبقت ذلك على كباية الليمون بالنعناع وهي مشروب شعبي منتشر… فتعرفت على سعرها في الفنادق الفخمة ثم في المقاهي الراقية .. ثم المقاهي الشعبية.. ثم الباعة المتجولين… واخيرا في المنزل.. فوجدت ان لها عشرة اسعار تبدأ بمائة وعشرين جنيها الى ان تصل تكلفتها في المنزل جنيه واحد…
مصر أصبحت المنتج الأول للتمور في العالم… وقد احصيت منها اكثر من عشرة انواع… تتفرج بس على جمالها… وفي المانجو أصبحت الدولة رغم ثلاثة… وقد احصيت خمسة انواع منها يترواح السعر من ١٥٠ جنيه للكيلو الي ٣٠ جنيه للكيلو يعني سعر كيلو واحد من صنف يمكن تشتري به خمسة كيلو من صنف اخر وكله منقة تغني عليها البلابل (لون المنقة يا الشايل المنقة) أو النعام آدم (منقة كسلا حلو وصافي لونا تومتي بريدا وغرب القاش سكونا)وهكذا الأمر في بقية الفواكة من عنب وكمثرى وتفاح وموز و… و… وكذا الحال في الخضروات من طماطم وخيار و… و…
السكن أو المساكن ليست بعيدة عن تلك التعددية ففي بعض المناطق يصل الإيجار الي أرقام فلكية وفي بعضها تجد الإيجار الشهري ثلاثة الف جنيه وفي رواية هناك أقل قبل انكسار السودانيون على مصر…
إذن يا جماعة الخير هذا التنوع الذي يعطي الخيارات المتعددة للمستهلك حقيقة من حقائق الوجود في القاهرة… قد جعل العيشة فيها سهلة ومتيسرة لكل الطبقات… فالقاهرة مدينة طبقية دون شك فعلي حسب علمي و مشاهداتي للإعلام خاصة الدراما المصرية هناك طبقات تعيش وكانها في اغني واغلى وارقى مدن العالم… بالتأكيد هناك طبقات يسحقها الفقر سحقا .. ولكن نحن هنا نتكلم عن الطبقة الوسطى العريضة والتي تشمل اكثرية المصريين وهي طبقة مرنة يمكن الصعود منها الي الاقلية الفوق… أو النزول منها الي الاقلية التحت فالمنافسة حادة جدا في مصر وأظن من هنا اتي التجويد والاتقان والحذر… فاقل دقسة سوف تجد نفسك خارج الشبكة مهما كانت مهنتك أو صنعتك… حتى ولو كنت بائع عنكوليب … هذة الطبقة الوسطى هي التي ترسم الحياة والمستقبل في مصر لما لها من حيوية.. ان وجود الخيارات المعيشية المشار إليها أعلاه هو الذي منح هذة الطبقة الاستقرار والامن والأمان بصورة مجملة… وبالتالي يحق للمصريين ينعموا ويفخروا بوطنهم يحبونه لدرجة العبادة… ونسأل الله أن يديم عليهم هذة النعمة ونسأله ذلك ينعم علينا بها….
هذة الخيارات لايمكن أن تأتي بالصدفة فلاشك ان وراءها عقلية فكرت وخططت ونفذت ثم تابعت… ليس هذا فحسب بل من المؤكد ان التجربة قد افرزت دروسا وعبرا لا بل ونظريات.. وبما اننا في السودان الأقرب لمصر والان بعد الحرب أصبحنا الأكثر احتكاكا بها.. فما الذي يمنع من نقل التجربة إلينا؟ الي متي تقف الحواجز النفسية والسياسية بيننا وبين المصريين؟ يكفي النيل ابونا دي حدها وين؟ الي الذين يتكلمون عن إعادة إعمار البلاد أو حتى الذين ينادون بالبناء من جديد باعتبار انه لم يكن هناك عمارا قبل الحرب… لماذا لا تستعينون بالتجربة المصرية…؟ هاكم اللوكيشن دا
عبد اللطيف البوني
حاطب ليل/٢٥ أغطس٢٠٢٥






