رأي ومقالات

الصِّراعُ الدِّراميُّ فِي شِعْرِ أبِي صَلَاح .. يا سمير بي نظرتك أوفي الميعاد” أنموذجًا

يحفل شعرنا العربي – قديمه وحديثه – بصراعٍ درامي محتدمٍ بين قوى متضادة تدور حولها أغلب التَّجارب الإنسانيَّة ، وقد عبَّرتْ عنها أروع القصائد الشعرية ، ويُعرَّف الصِّراع الدِّراميّ في أدب الرواية بأنَّه:” التَّحدي الذي تضطر الشَّخصية الرئيسة لمواجهته حتَّى تصل إلى أهدافها” ، ويتمثل ذلك الصِّراع في جوانب كثيرة منها: تضارب المشاعر والأفكار، أو القيم والمبادئ داخل نفس الشَّاعر، وقد يكون صراعاً بين العقل والعاطفة، أو الخير والشر؛ فالحنين الذي لا يهدأ للعزيز الغائب وطنًا كان أو محبوبًا ، وقصة الوصل والانقطاع بين الأحبَّة متمثلة في الهجر والشوق ، والتَّوق المستعر للقاء من نحب ، والأمل واليأس، وألم الغربة والبعد عن الأوطان ، وغيرها من تلك الصِّراعات التي تُولِّد في الشعر توترًا نفسيًا أو اجتماعيًا في الغالب .
ولا يقتصر الصِّراع الدِّراميّ على الشعر المسرحي أو القصصي بل قد ينتقل إلى الشعر الغنائي بأغراضه المختلفة وأكاد أجزم على أنَّ معظم شعرنا الغنائي لا يخلو من هذا الصِّراع وإنْ كان بدرجات متفاوتة، ولعلَّ هذا الصِّراع هو الذي يمنح القصيدة حيويتها وعمقها، ويجعل القارئ يتفاعل معها عاطفياً وفكرياً.
وقد برز هذا الصِّراع في الشعر العربي القديم متمثلًا في: شعر الغزل العذري الذي يمزج فيه الشَّاعر بين ألم الهجر وغياب المحبوب، وبين نار الشوق التي تصلي قلبه، وكذلك نجده في الوقوف على الأطلال الذي يُذَكِر الشَّاعر بالدِّيار التي هجرها الأحبَّة، وفي مقدمة امرئ القيس تصويرًا رائعًا لهذا الصِّراع وهو الشَّوق بعد فراق الأحبَّة:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْملِ
فالشَّاعر يستوقف صاحبيه للبكاء معه “قِفَا نَبْكِ” على أطلال محبوبته، فهو يستدعي ذكريات الماضي الجميل، “ذكرى حبيب ومنزل”، مما يفاقم الألم في الحاضر.
ثم تمضي الأبيات فنراه يصور الصِّراع بين رغبته في البقاء مع محبوبته وبين شعوره بالضيق من تدللها وجفائها مع إظهار قمة التَّسامح والتَّضحية من جانبه في سبيل الحبِّ:
أفاطِـــمَ مَهْــــــلاً بَعْـــضَ هَـــــذَا التَّـــدَلُّلِ وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزمعْــــتِ صَــــرْمِي فَأَجْمِلِي
وَإنْ تكُ قـــــد ساءتكِ مني خَليـــــقَـــــةٌ فسُــــلّي ثيــــــابي مــــن ثيـــــابِـــكِ تَنْـسُـــلِ
أغَـــــــرَّكِ مِــــــــنِّي أنَّ حُبَّـــــــكِ قَاتِــــــلِي وأنَّـــــكِ مَهْـــمَا تَأْمُــــــرِي القَلْــــــبَ يَفْعَــــلِ؟
وهذا أيضًا كُثيِّر عزة في العصر الأموي يصور الصِّراع الدِّراميّ وهو هنا الفقد والحرمان، وشعوره بالظلم من محبوبته، فيقول:
وما كنت أَدري قَبلَ عَزَّةَ ما البُكا وَلا مُوجِعاتِ القَلـــبِ حَتَّى تَوَلَّتِ
وَما أَنصَفَت أَما النِساءُ فَبَغَّضَت إِليـــنا وَأَمَّـــــا بِالـنَــوالِ فَضَــــنَّـــتِ
فَـــوا عَجَبًا لِلقَلــبِ كَيفَ اِعتِرافُهُ وَلِلنَفــــسِ لَــــــمّا وُطِّنَت فَاِطمَأَنَّتِ
وهذا الخليفة هارون الرَّشيد اعترف بسلطان الأنوثة:
ما لي تطاوِعُني البَرِيّةُ كُلُّها وأُطِيعُهُنّ وهُنَّ في عِصْياني
ما ذاكَ إِلاَّ أَنَّ سُلْطان الهَوى وَبِهِ مَلَكْنَ أعَزُّ من سُلْطاني
وهذا قيس بن الملوح يعبِّر عن رغبته الشديدة في الوصول إلى محبوبته ليلى، وبين العقبات التي يضعها أهلها لمنعه إلا أنَّ الشَّاعر يؤكد أنَّ سلطة المنع لا تمتد إلى حريته في القول والإبداع، فيقول:
فَإِن تَمنَعوا لَيلى وَتَحموا بِلادَها عَلَيَّ فَلَن تَحموا عَلَيَّ القَوافِيا
وهذا المعري في العصر العباسي يتخذ العنقاء – وهو طائر خرافي- كرمز للاستحالة، فيقول:
أرى العَنْقاءَ تَكْبُرُ أن تُصادا فعانِدْ مَنْ تُطيقُ لهُ عِنادا
وما نَهْنَهَتُ عن طَلَبٍ ولكِنْ هيَ الأيّامُ لا تُعْطي قِيادا
نلاحظ أنَّ البيتين السابقين يتناولان صراعًا نفسيًا عميقًا بين الطموح البشري وقيود الواقع، لكن في ذروة هذا الصِّراع يُقدِّم الشَّاعر منهجًا للتكيف النفسي مع هذه الحقيقة “وما نَهْنَهَتُ عن طَلَبٍ”؛ فالعنقاء هنا ليست مجرد طائر بل هي رمزٌ يُمثل الهدف المستحيل أو الحلم البعيد إلا أنَّ وجود الدافعية الداخلية يعزز الطلب حتَّى وإن لم يتحقق” فعانِدْ مَنْ تُطيقُ لهُ عِنادا”.
كما نلاحظ بروز عناصر الصِّراع الدِّراميّ في شعر المتنبي وذلك في قصيدته (وا حرَّ قلباه) مخاطبًا صديقه سيف الدولة الحمداني:
واحــرَّ قَلبــاهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِــــــمُ وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدَولَةِ الأمَمُ
نلاحظ أنَّ الصِّراع الدِّراميّ تجلَّى في البيتين السابقين في قلب حار مفعم بالشوق، والألم في مواجهة قلب شبم بارد عديم الإحساس.
وأما في الشعر الحديث يبرز هذا الصِّراع بأشكال مختلفة ومتنوعة، وربما تكون أكثر تعقيدًا؛ فصراع الإنسان مع نفسه ومع مجتمعه شاهدًا على ذلك، فهذا أحد المحدثين يصور هذا الصِّراع مستخدمًا الحوار كإحدى أدوات البناء الدِّراميّ للحدث، فيقول:
قالت: أتسمح؟ قلتُ: لا أسمحُ! فالسحــر في عينيك طفــلٌ يمـــرحُ
قالت: أنا ظمأى! قلتُ: عجيبةٌ أن تظمئي! وسلاف ثغرك مطمحُ
قالـت: فبُعـــدُ الشَّرِّ! قلــتُ: إنَّــــما للشـرِّ في الدُّنيا نصيـــبٌ أفســحُ
فالأبيات ترسم لوحةً درامية للعلاقة بين الرجل والمرأة حيث تتصارع الرغبات الدفينة مع الرفض المبدئي، وتتبادل الأدوار بين من يطلب ومن يمنح.

وكذلك أحمد شوقي يشكو تعب الشَّوق والحبِّ في عيون المحبوبة، فقال:
أُداري العُيونَ الفاتِراتِ السَواجِيا وَأَشكو إِلَيــها كَيـــــدَ إِنسانِهــا لِيا
قَتَـــــــلنَ وَمَنَّيــــــنَ القَتيـلَ بِأَلسُــنٍ مِنَ السِحرِ يُبدِلــنَ المَنايا أَمانِيا
يتجلى الصِّراعُ الدِّراميُّ في هذين البيتين في التناقض الحاد بين الجمال الفاتن والأذى المدمر الذي ينتج عنه، العيون السَّاحرة هي نفسها التي تقتل القلب، ثم تمنّي القتيل بوعود كاذبة!
وعلى كلٍّ فالصِّراعُ الدِّراميُّ يتجلى بصور شتَّى في شعرنا العربي بوجهٍ عام وفي شعر الأغنية السُّودانية “الحقيبة” بوجهٍ خاص، فهذا الشَّاعر أبو صلاح أحد شعراء الحقيبة يُقدِّم لنا الجمال بصورٍ متعددةٍ، أغلب هذه الصور ترتبط بالمرأة وحسنها الفاتن، أو بالطبيعة السَّاحرة، أو بلحظات الصَّفاء والسَّعادة، فنجد وصفًا دقيقًا للملامح، ورسمًا خلابًا للمشاهد الطبيعية التي تبعث على البهجة، لكن سرعان ما يتسلل الألم إلى هذه اللوحات الجميلة، ليُلقي بظلاله عليها ويبرز الصراعُ الدِّراميُّ، فانظر مثلًا في قوله:
” ضامر قوامــك لان قلبك قسى وجافيت ليه يا جدي الغـــزلان
أسهرت جفني ملان يزرف دمع نازل كالمـــــزن في الهمــــلان ”
في البيتين السابقين يبرز لنا الشَّاعر التناقض بين الجمال والقسوة، “ضامر قوامك لان” يُشير إلى رشاقة وجمال المحبوب الخارجي الذي يتناقض بشكل صارخ مع التَّحول الداخلي الذي يصفه مباشرة بـ “قلبك قسى وجافيت” وهنا تبرز خيبة أمل الشَّاعر فيوجه استفهامًا إنكاريًا للمحبوب:” ليه يا جدي الغـــزلان” تعبيرًا عن الحيرة والألم من فعل الحبيب الذي “أسهرت جفني ملان”، لكنه يمزج بين اللَّوم والتَّحبب، فينادي المحبوب بـ “يا جدي الغزلان”، وهو وصف يجمع بين القوة والجمال.
وقد يكون الصِّراع الدِّراميّ في مناجاة اللَّيل والبحث عن الشاهد “يا ليل أبقالي شاهد على نار شوقي وجنوني” فالشَّاعر هنا لا يشتكي لليل ولكنه يجعله شاهدًا على الحرقة والألم. وهكذا نجد الصِّراع الدِّراميّ يتشكل في شعر أبي صلاح بصورة واضحة فلا يكاد نص له يخلو من هذا الصِّراع.
ولعلَّ نص أغنية ” يا سمير بي نظرتك أوفِ الميعاد ” يبرز فيه هذا الصِّراع بشكل قويٍّ، فالأغنية تعكس صراعًا داخليًا، بين تشبث الشَّاعر بالأمل الضعيف في عودة النظرة من المحبوب ليعود الدفء إليه، وبين الاستسلام لنيران الهجر، فاستخدم الشَّاعر اللغة الموحية المؤثرة، والصور الشعرية التي تجسد هذا الصِّراع، والتساؤلات الاستنكارية، والتكرار المؤثر، وتراكيب نحوية غير مألوفة، وإيقاعات متسارعة تعكس الحالة الدِّراميّة في القصيدة، كما يتعزز الصِّراع الدِّراميّ في الأغنية أيضًا بالأداء الغنائي واللَّحن، والتَّعبير الصَّوتي للمغني يضفي أبعادًا درامية أخرى للكلمات، يقول أبو صلاح:
” يا سمير بي نظرة أوفِ الميعاد العيـــــون الشافـــتـك ما أسعـــــدا ”
فاستهلَّ الشَّاعر البيت السابق بالأسلوب الإنشائي الطلبي وقد جعل أداته النداء” يا سمير بي نظرة”، وصرخة النداء هنا تُوحي بالرَّغبة الملحَّة في استعادة تلك النَّظرة التي تمثل الوفاء بالعهد، ثم أردف النداء بطلب آخر جاء بصيغة الأمر” أوفِ الميعاد” التي جاءت هنا بغرض التمني، فالشَّاعر يتمنى أن تنتهي حالة الهجر العاطفي الذي هو فيه، ثم ختم البيت بأمنيَّة عبَّر عنها بالأسلوب الإنشائي غير الطلبي وجعل أداته التَّعجب ” ما أسعدا” التي تنقل احساسًا قويًا بالسَّعادة التي تغمر الرائي. والبيت يشتمل على استعارة مكنيَّة حيث شبَّه نظرة المحبوب “سمير” بمثابة الوفاء بالوعد، ثم يستطرد الشَّاعر في الشطر الثاني بالجملة الاسمية “العيـــــون الشافـــتـك ما أسعـــــدا” التي تفيد ثبوت السَّعادة للعيون التي تنظر إليك، وقد جاء بها معرفة بـ(ال) لتفيد الاستغراق-أي الإحاطة والشمول- وقد يكون الشَّاعر قد وقع في مخالفة نحوية حينما أدخل ” ال ” التَّعريف على الفعل (شافتك)! وحسبه أنَّ الكوفيين أجازوا له ذلك حتَّى مع الماضي باعتبار(ال) اسم موصول بمعنى الَّذي أو الَّتي، والتقدير: “العيون التي شافتك”.
وعلى كلٍّ فإنَّ الصِّراع الدِّراميّ هو نبضٌّ حيٌّ في شعر الحقيبة بشكل عام، وفي شعر أبي صلاح بوجهٍ خاص، سيظل شاهدًا على عبقرية الشَّاعر وقدرته على استلهام الصِّراعات الكبرى في الحياة، وتحويلها إلى تجارب شعرية خالدة، تُلامس وجدان القارئ وتدعوه إلى التأمل، بل سيصبح مرآةً تعكس أفراحنا وأتراحنا وآمالنا وآلامنا، ولنا عودة بإذن الله في الجزء الثاني من هذا المقال.

الصِّراعُ الدِّراميُّ فِي شِعْرِ أبِي صَلَاح (1)
أغنية “يا سمير بي نظرتك أوفي الميعاد” أنموذجًا
بقلم الأستاذ: عماد الدين قرشي محمد حسن
خرطوم نيوز