جمعية الشعراء الأموات!!

بعد عقدين من الزَّمن، أعدتُ مشاهدةَ “جمعية الشعراء الموتى- Dead Poets Society” للمنتحر الأيقونيِّ “روبن ويليامز”، وخطرت على بالي فكرةُ إنشاء جمعيَّة مشابهة، سمَّيتُها “جمعيَّة الشعراء الأموات”، وحقوق الاسم طبعًا غير محفوظةٍ، وعلى مَن يجد في نفسه الصفات الآتية، التقدُّم بطلب انضمامه للجمعيَّة بعد الإجابة عن بعض الأسئلة، تتلخَّص في:هل قصيدةُ النثرِ شعرٌ؟ وهل اجتازت “خرسانة” عمود الشِّعر المواصفات البلديَّة اللازمة أم لا؟
المرشَّحون المفضَّلُون لأمانة الجمعيَّة:الرُّواة، والحكَّاؤون، وضيوف برامج البودكاست المعتادُون. أولئك الذين يحلبُون التراث، ثمَّ لا يهضمُونه، فتجد الواحد منهم يتغنَّى بشجاعة عنترة، وهو يخشى أنْ يعود إلى المنزل دون ربطة الخبز التي أوصته زوجتُه عليها، أو يشيد بزهد أبي العتاهية، في الوقت الذي جاء إلى الاستوديو بسيَّارته “الرينج روفر” ذات الدفع الرباعي على شوارع أسفلتية ناعمة، أو يبهر المستمعِينَ بحلم الأحنف، وهو لا يتحمَّل أنْ يناقشه المذيعُ في لون جدار منزله.

المرشَّحون المفضَّلون لعضويَّة مجلس إدارة الجمعيَّة:
شعراء المسابقات:
هؤلاء بالذَّات يمكن أنْ يكونوا خرِّيجي أقسام التَّسويق في كليَّات ومعاهد الإعلام، فإذا ما قيل لهم حتَّى تنالُوا الجائزة الكُبرى، عليكم أنْ تتغزَّلُوا، وتفرحُوا، وتحزنُوا، وتفتخرُوا بما يريد المسؤول عن المسابقة، سمعت وقع أحافر خيولهم على مسرح المسابقة، وهي تركض، وتعربد، وتدبِّج المعاني الضَّافية، وحينما تجمع كل ذلك في منخل الشعر، لا يجتمع معك سوى قصيدة، أو قصيدتَين حتَّى لا نبالغ في تشاؤمنا، فأصبحنا نعرفُ الشعراء دونْ أنْ نعرف شعرهم، نتذكَّر وجوههم دون أنْ نتذكَّر بيتًا أو بيتين لهم، نحفظ ملامحهم دون أنْ نحفظ قصائدهم.شعراء المناسبات:
قرأتُ تعريفًا لحساب في منصَّة تواصلٍ اجتماعيٍّ زال مجدُها يقول التالي: “نخلِّيك شيخ ع ربعك، وأنت ما تسوى التالية من الغنم”.
هؤلاء النوع من الشُّعراء لديهم قدرة عجيبة على التقمُّص. يكثرُون حول موائد المهرجانات وقصور الأفراح، يبدؤون بتمجيد الواحد الأحد حتَّى تكاد أنْ تبكي من قوَّة عقيدتهم واعتقادهم، ثمَّ لا يلبثُون يخلعُون على الممدوح صفات تستغفر منها في داخلك، سيَّما إذا كنت تعرف الممدوح، وأباه، وخاله، وعمَّه. لديهم قدرة عجيبة على الحضور في جميع المناسبات المتضادة، فإذا ما بحثت عنهم فرحين، تجدهم في مواسم الفرح، وفي المصائب الكُبرى تجدهم حاضرِينَ، إنْ فاز فريقهم في كرة القدم تغنُّوا به، وإنْ أخطأ شخصٌ ما في مواقع التواصل الاجتماعيِّ جلدُوه جلدَ غرائبِ الإبل، لا يعرفُون من الشِّعر إلَّا اسمَه، قدرتهم على تغيير جلدهم أسهل عليهم من تغيير ملابسهم.
هل قصيدة النثر شعر؟
هذه القضيَّة تحوَّلت إلى قضية اعتقاد، تفصل بين فسطاطين: فسطاط الحق، وفسطاط الباطل، وكلٌّ يجنِّد الأتباع، ويحوز المريدين. فالعموديُّون وبعضُ التفعيليِّين كلُّ همِّهم إقصاء النثريِّين وقصائدهم عن حلبة الشعر، وفي المقابل يبدي النثريُّون تحرُّرًا وكُفرًا بكلِّ الأوزان والموازين العموديَّة والتفعيليَّة، وكلَّما أوقدَ فريقٌ نارَه، احترقَ كثيرٌ من الشِّعر الحقيقيِّ.
النقَّاد: حُماة العتباتالنقَّاد الذين يقفُون عند عتبات النصوص، مثل حارس المرمى، ذاك الذي حرس مرماه في مباراة ضبابيَّة طوال 90 دقيقة، ولم يعرف أنَّ الحكم كان قد أنهى المباراة. يتغنُّون بالغلاف وألوانه، وبالخط وميزانه، وبالرسم وحيوانه، حتَّى ينتهُوا بالسَّطح وعنوانه، دونَ أنْ يتجرَّأوا على أنْ يسبرُوا غور الشِّعر الحقيقيِّ ومعانيه ورموزه.
المستنكفُون من الشعر الشعبي:
أولئك الذين تلتمع أعينهم كلَّما ثار جدل “الفصيح والشعبي”، وكأن الشعر يقف فقط عند الألفاظ والقواعد، موميائيُّون وموميائيَّات نصَّبُوا أنفسهم حرَّاسًا لأبواب نادي النُّخبة، كلُّ همِّهم التقليل من الشعر الشعبيِّ، وهم لا يعلمُون أنَّهم يقلِّلُون من التجربة الإنسانيَّة ككل.شعراء الألقاب:
الذين يفضِّلُون استخدام ألقاب متداولة، وكأنَّها مؤشِّر على الموهبة، مثل “شاعر الألفيَّة”، أو “شاعر الجيل الجديد”. يظنُّون أنَّ اللَّقب يُضفِي عليهم هيبةً إضافيَّةً، رغم أنَّ كلمتهم قد تكون خافتةً في مجال الإبداع، ومثلهم شعراء الفيسبوك، والتكتوك، الشغوفُونَ بمشاركة قصائدهم عبر وسائل التواصل الاجتماعيِّ. يتوسَّلُونَ الإعجابَاتِ والتفاعلاتِ، بدلًا من جودة المحتوَى. يدورُونَ في فلكِ العباراتِ المكرَّرة والمستهلكة، ورد من قبيل “راقت لي هذه العبارة”، تجعلهم يدورُونَ حول أنفسهم دورة المغشي عليه من الموت.
شعراء النثر الممل:
يصجُّونَك بـ”قصيدة نثر”، لكنْ لا معنى، ولا عمق، ولا ابتكار، ولا وزن، ولا قافية. جنايتهم تمتدُّ من “بغداد إلى الصينِ”، وهذا البحر المتلاطم من الشبكة العنكبوتيَّة، ووسائل التواصل الاجتماعيِّ، والترجمات المشبوهة فتحت لهم أبوابًا لا يمكنُ إغلاقُهَا.
سمير الزهراني – جريدة المدينة






