الانسحاب من الفاشر .. المأزق الأقل فداحة

عندما أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية أن قيادة الفرقة السادسة مشاة قررت إخلاء مدينة الفاشر والإنسحاب منها بعد ثلاثين شهراً من الصمود الأسطوري ، انقسم الرأي العام بين مؤيد للقرار باعتباره ضرورة عسكرية، ومعارض يرى فيه تخلياً عن مسؤولية حماية المدنيين، لكن قراءة متأنية للموقف تكشف أن هذا القرار – رغم مرارته – يمثل اختياراً للمأزق الأقل فداحة في معادلة أكثر تعقيدا مما يظهر لنا …
في قرطاج القديمة استمر الحصار الروماني لمدة ثلاث سنوات مع مقاومة شرسة حتى الموت، فكانت النتيجة إبادة كاملة للمدينة، وتدمير تام للحضارة ، مع استعباد للناجين، وفي الفاشر استمر الحصار لثلاثين شهراً مع مقاومة أسطورية في ظل اختلال موازين القوى، والنتيجة انسحاب واخلاء منظم لحماية ما تبقى من المدينة وسكانها، والفرق الجوهري أن قادة قرطاج اختاروا المقاومة حتى المحرقة، بينما اختار القيادة في الفاشر الحفاظ على بذرة الحياة لمعارك أخرى .. والتاريخ أيضا يذكر قرار انسحاب ستالين من مدينة كييف في الحرب العالمية الثانية فقد انسحب منها بجيش يبلغ تعداده أكثر من نصف مليون جندي ليخوض بهم معارك موسكو وكورسك وستالينجراد ..
في الحسابات العسكرية فان الخسائر المحتملة في الفاشر في حال استمرار المقاومة، هي ابادة كاملة للوجود العسكري من القوات المسلحة والقوات المشتركة مع 80% من المدنيين المتبقين في المدينة، بالاضافة لتحويل المدينة إلى أنقاض بالكامل، مع تدمير كل البنى التحتية، ثم النتيجة النهائية ستكون سقوط المدينة، لذلك كان خيار الاحتفاظ بالقوة العسكرية مرجحا على الاحتفاظ بالأرض ..
وفي الحسابات الاستراتيجية، فالحرب في السودان ليست معركة واحدة، بل هي حرب وجود وحرب نفس طويل ، لذا فالقرار بالانسحاب يأتي في إطار إعادة التمركز والانتقال إلى مواقع بديلة، والحفاظ على المؤسسة العسكرية بمنع الانهيار الكامل للجيش النظامي، لذلك عندما تكون نتائج المواجهة ليست في صالحك يكون تقليل الخسائر هو النصر الوحيد الذي يمكنك تحقيقه ، وكلنا يعلم أن الثمن الأخلاقي للإستمرار في المقاومة سيكون باهظا في مواجهة مليشيا لا أخلاق لها ولا تعرف الرحمة ..
والتاريخ يخبرك أن المقاومة حتى الموت ليست خيارا جيدا في كل الأحوال ، كما أن الانسحاب التكتيكي يمكن أن يكون أساسا لنصر استراتيجي، وقرار الانسحاب من الفاشر هو قرار اختيار بين (المُر) المؤقت و (الأمر منه) الدائم ..
ورغم أن الجنجويد غير مأمونين على أرواح وحيوات المدنيين بالفاشر، ورغم أن هذا الإنسحاب الممض هو بمثابة ترك شعب مدينة الفاشر أمام آلة من الإجرام والتعسف الذي لا مثيل له، إلا أنه خيار اتخذ بتقديرات ميدانية باعتباره أقل تكلفة من معركة كسر عظم نهايتها ستكون اذلالا لمؤسسة الدولة والجيش السوداني ..
يوسف عمارة أبوسن
27 أكتوبر 2025






