رأي ومقالات

مقال تحليلي لخطاب السيد رئيس حركة العدل والمساواة و وزير المالية و التخطيط الإقتصادي

تحدث الدكتور جبريل إبراهيم، وزير المالية والتخطيط الاقتصادي، حديث رجل يعرف تمامًا موقعه من التاريخ، ويدرك دروب السياسة ومزالقها. كان صوته واثقًا، ولغته العربية رفيعة السبك جميلة اللفظ ، جمعت بين البيان السياسي والوجدان الوطني. ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها الرجل، لكنها المرة الأوضح التي بدا فيها كمن يضع النقاط على الحروف، محددًا طريق الدولة، ومرسخًا مفهوم الصمود الوطني في وجه العاصفة التى صنعها الجنجويد.

أجمل ما في خطابه أنه أعاد التذكير بأن الوحدة الوطنية هي الطريق الوحيد إلى النصر. قالها بصيغة الواثق، لا بصيغة المتمني. أراد أن يقول إن السودان لن ينهض إلا إذا اجتمع أبناؤه على كلمة سواء، وأن الانقسام هو الهاوية التي يريد الأعداء جرّ البلاد إليها. فالوطن، كما لمح في خطابه، لا يُبنى بالبندقية وحدها، بل بالإجماع الشعبي والإرادة السياسية الجامعة. كانت عباراته تفيض بإيمان راسخ بأن التشتت هو أخطر من الرصاص، وأن اللحمة الوطنية هي الدرع الواقية أمام المؤامرات والتدخلات.

التى قادتها مليشيا الدعم السريع المتمردة
ولم يتردد الوزير في تسمية الأشياء بأسمائها، حين أشار إلى أن بعض الدول الطامعة كانت وراء تسليح المليشيا ودعمها بالسلاح والمال، في مسعى لإطالة أمد الحرب وتفكيك السودان. هذا الاتهام لم يكن مجرد انفعال عابر، بل تحليل يستند إلى قراءة دقيقة لتشابك المصالح الدولية في الأزمة السودانية. لقد أراد أن يضع الرأي العام أمام حقيقة أن المعركة لم تعد محصورة بين قوات وطنية ومليشيات خارجة على القانون، بل باتت ساحة اختبار لإرادات دول تتقاطع أطماعها على أرض السودان.
وفي حديثه عن الفاشر، كانت نبرته مشحونة بالعاطفة والفخر. وصف صمود المدينة بأنه امتحان حقيقي لمنظمات المجتمع الدولي والأمم المتحدة، امتحان سقطت فيه الشعارات الحقوقية والإنسانية التي ظلت ترددها تلك المؤسسات دون فعل حقيقي على الأرض وذكر بعض المواقف المخزية لتلك المنظمات. كان صمود الفاشر، كما قال، رمزًا لقدرة الشعب السوداني على المقاومة، ورسالة إلى العالم بأن هذه البلاد لا تُكسر بسهولة، وأن الدم الذي سُفك لن يذهب هدرًا. لقد أراد أن يجعل من الفاشر أيقونة وطنية للصبر والثبات، كما كانت الخرطوم رمزًا للتحدي، ودارفور رمزًا للألم والأمل معًا. ولم تنسى ود النورا التى عانت مجازر الجنجويد
ولم يخفِ الوزير حقيقة أن الحرب قد تكون طويلة. قالها بوضوح لا يعرف المواربة: نحن على وعد بحرب طويلة تعيد كل السودان، ولن تحكمنا مليشيا. في اقواله اختصار لفلسفة الرجل السياسية: النصر لا يُشترى بالاستسلام، والدولة لا تُبنى على فوضى السلاح. لقد أراد أن يعلن أن السودان لن يُدار تحت تهديد البنادق، وأن الحكومة الشرعية مستعدة لخوض معركة الزمن لاستعادة هيبة الدولة ووحدة ترابها.
من الناحية اللغوية، جاء خطابه متين العبارة، متوازن الإيقاع، يتنقل بين العاطفة والعقل، وبين النداء الوطني والتحليل الواقعي. لم يكن خطابًا منمقًا فحسب، بل كان خطاب موفقا. وقد أحسن الرجل حين جعل من لغته أداة إقناع لا وسيلة تزيين، فتحدث بلسان من يعيش الأزمة، لا بلسان من يصفها من بعيد.
كما أجاد في رسم صورة مزدوجة: السودان الذي يقاوم، والسودان الذي يُستهدف. أراد أن يبعث برسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج: إلى الداخل بأن الوحدة قدر لا مفر منه، وإلى الخارج بأن الأطماع لن تجد موطئ قدم طالما بقيت هذه الأمة متماسكة.
لكن حديث الدكتور جبريل ليس بلا تحديات. فحين يقول إن الحرب طويلة، فهو يدرك حجم المعاناة التي يعيشها الشعب، ويدرك أن الصمود ليس مجرد شعار بل عبء ثقيل على كاهل الفقراء والمشردين والنازحين. ومع ذلك، يبدو أنه يراهن على وعي الناس، وعلى إحساسهم بأن معركتهم ليست سياسية فقط، بل معركة بقاء وحياة. لقد حاول أن يصوغ الألم في شكل أمل، وأن يحوّل المأساة إلى مشروع وطني جامع مانع.
في المحصلة، كلمة وزير المالية لم تكن مجرد تصريح سياسي، بل بيان وطني في لحظة مفصلية. حملت رسائل سياسية وعاطفية، ووجهت سهامها نحو الخارج والداخل معًا. إنها كلمة تؤسس لمزاج جديد في الخطاب الرسمي، يجمع بين الواقعية والإصرار، بين الغضب والعقل، بين الدعوة إلى الصمود والتحذير من التفكك.
وحين يختم حديثه بالقول “لن تحكمنا مليشيا”، فهو لا يقصد فقط رفض سلطة القوة، بل يؤكد أن السودان سيبقى دولة قانون، لا غابة بنادق. إنها رسالة أمل من رجل يعرف أن المعركة طويلة، لكنه ما زال يثق أن النصر سيولد من رحم الوحدة، لا من رحم الانقسام.
والله المستعان

عبدالشكور حسن احمد
المحامي

إعلام حركة العدل والمساواة السودانية