رأي ومقالات

الصين من الهامش إلي المركز

يقيس الاقتصاديون حجم الاقتصاد ويتتبعون تطوره من خلال حساب الناتج المحلي الإجمالي. ويُعرّفون الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بأنه القيمة السوقية الإجمالية لجميع السلع والخدمات النهائية المُنتجة في بلد ما خلال عام.

ولكن إذا أردنا مقارنة الناتج المحلي الإجمالي لبلد بآخر، فإننا نواجه مشكلة تتعلق بتحويل أحد الناتجين المحليين إلى عملة أجنبية.
لنفترض أننا نريد مقارنة حجم الاقتصاد الصيني بحجم الاقتصاد الأمريكي. يمكننا قياس الناتج المحلي الإجمالي الصيني ثم تحويله إلى دولارات باستخدام سعر الصرف السائد في السوق. لكن المشكلة هنا هي أننا نحصل على مقارنات مختلفة تمامًا إذا تغير سعر الصرف، وفي هذه الحالة يتغير الحجم النسبي للاقتصاد الصيني حتى لو لم تتغير كمية السلع والخدمات التي ينتجها، وبالتالي نصل إلى مقارنة خاطئة.

ولكن هناك مشكلة أخرى. تذكر أننا نحسب الناتج المحلي الإجمالي بجمع قيمة السلع والخدمات المُنتجة في الاقتصاد خلال عام. لنفترض أن الاقتصاد الأمريكي ينتج ساندوتش هامبرغر واحد ويبيعه بعشرة دولارات، ففي هذه الحالة نضيف 10 دولارات إلى الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي كلما أنتجوا واحد بيرغر.

لنفترض الآن أن الصين تنتج أيضًا نفس الساندوتش بتطابق تام وتبيعه بدولارين. في هذه الحالة نضيف دولارين إلى الاقتصاد الصيني بينما نضيف 10 دولارات إلى الاقتصاد الأمريكي لإنتاج نفس الساندوتش بالضبط. الآن يمكنك أن ترى أن الناتج المحلي الإجمالي الاسمي غير مفيد في مقارنة الحجم الحقيقي للاقتصادات لانه يضيف للاقتصاد الأمريكي عشرة دولارات مقابل أثنين للصين نتيجة لإضافة نفس السلعة بنفس ألكم.

للتغلب على هذه المشكلة، يستخدم الاقتصاديون مقياس الناتج المحلي الإجمالي عند تعادل القوة الشرائية. يحسب هذا المقياس السلع المنتجة، وليس سعرها السوقي.
لإجراء مقارنة مفيدة، نحتاج إلى استخدام سعر صرف مختلف لمقارنة حجم الاقتصاد الصيني بالنسبة للاقتصاد الأمريكي. لذا، إذا كان كلا البلدين ينتج البيرغر فقط، ولا شيء غير ذلك، فسيكون سعر الصرف وفقًا لتعادل القوة الشرائية هو أن يوانًا صينيًا واحدًا يعادل خمسة دولارات أمريكية، لأن يوانين وعشرة دولارات أمريكية يمكنهما شراء نفس البيرغر.
لكن في الواقع، يُنتج كل اقتصاد آلاف السلع والخدمات. لهذا السبب، يختار الإحصائيون سلة سلع م بعناية ويحسبون تكلفة السلة في كل بلد. ثم يستخدمون تكلفة السلة في كل بلد لحساب سعر صرف تعادل القوة الشرائية، بنفس الطريقة التي حسبتُ بها سعر الصرف بافتراض أن الاقتصادين ينتجان الهامبرغر فقط.

سعر صرف تعادل القوة الشرائية هو سعر الصرف الذي يُساوي القوة الشرائية لعملتين، مما يجعل تكلفة سلة السلع متساوية في كلا البلدين بهدف مقارنة مستويات المعيشة والناتج الاقتصادي بدقة أكبر، من خلال استبعاد الاختلافات في مستويات الأسعار. الآن، يمكننا أن نسأل ما هي أكبر الاقتصادات في العالم.

إذا استخدمنا الناتج المحلي الإجمالي الخاطئ المُقاس بأسعار السوق وأسعار الصرف السوقية، فستكون الإجابة هي أن الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر في العالم بقيمة 29.2 تريليون دولار في عام ٢٠٢٤. خلال العام نفسه، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للصين 18.7 تريليون دولار.

ولكن إذا استخدمنا الناتج المحلي الإجمالي الأكثر دقة المُقاس بكمية السلع والخدمات المُنتجة (وليس باستخدام أسعار السوق) في ذلك العام، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين (محسوبا بمعادل القوة الشرائية) 37 تريليون دولار، مقارنةً بـ 30 تريليون دولار لأمريكا. هذا يجعل اقتصاد الصين أكبر بنحو 23% من الاقتصاد الأمريكي، والفجوة آخذة في الاتساع.
ولرؤية المعنى الحقيقي للمعجزة الصينية، لاحظ أنه في عام 1990، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا (معادل القوة الشرائية) 6 تريليونات دولار مقارنةً بـ 1.1 تريليون دولار للصين، وكان الاقتصاد الصيني يُعادل 18% فقط من الاقتصاد الأمريكي. وبحلول عام 2008، بلغ حجم الاقتصاد الصيني 62% من الاقتصاد الأمريكي. وبحلول عام 2014، تجاوزت الصين الولايات المتحدة الأمريكية بناتج محلي إجمالي بلغ 18.9 تريليون دولار مقارنةً بـ 18.3 تريليون دولار للولايات المتحدة. وبحلول نهاية عام 2025، سيكون حجم الاقتصاد الصيني أكبر من الاقتصاد الأمريكي بحوالي الثلث.

الصعود الصيني المذهل رغم أنه يبدو كمعجزة إلا أنه ليس انقطاعا وإنما عودة التاريخ إلي مساره إذ أحتلت الصين مركز الريادة الاقتصادية والعلمية لآلاف السنين ولم تتخلف إلا في المئتي عام قبل الثورة الشيوعية في منتصف القرن الماضي. وكان سبب تخلفها التدخل الأجنبي السافر من أوروبا واليابان إضافة إلي ضعف داخلي.

الآن دعونا نُميز بين القوة والرفاهية حسب نصيب الفرد من لناتج المحلي الإجمالي. لاحظ أن عدد سكان الصين يبلغ 1.4 مليار نسمة، بينما يبلغ عدد سكان أمريكا حوالي 340 مليون نسمة. هذا يعني أن متوسط ​​دخل الفرد في أمريكا أعلى مقارنةً بالصين.
لكن هناك مشكلة أخرى، وهي أن توزيع الدخل في الولايات المتحدة سيء للغاية، لذا فإن ارتفاع متوسط دخل الفرد قد يخفي بؤس ملايين الناس. تذكر: إذا كنت تجلس تحت شجرة مع أبجيقاتك وام جيقاتك، وكان متوسط ​​دخلكم الشهري هو مائتا دولار، ولكن إذا انضم إليكم إيلون ماسك فجأة تحت الشجرة، فسيرتفع متوسط ​​دخلك فجأة إلى بضعة مليارات من الدولارات. بمعنى آخر، إذا استحوذ عدد قليل من الناس على معظم الدخل في مجتمع ما، فإن متوسط ​​مستوى الدخل يصبح بلا معنى.

ولكن فيما يتعلق بالقوة في ساحة الملاكمة العالمية، سواء كانت اقتصادية أو تجارية أو سياسية أو عسكرية، فإن الناتج المحلي الإجمالي المطلق هو الأهم، وليس متوسط ​​الناتج المحلي الإجمالي أو متوسط ​​دخل الفرد. يمكن أن تكون الدولة غنية جدًا من حيث متوسط ​​الدخل، لكنها لا تتمتع بقوة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية متناسبة – ومن الأمثلة على ذلك النرويج وسنغافورة وقطر وسويسرا، إلخ.
من ناحية أخري، الناتج المحلي الإجمالي عند تعادل القوة الشرائية هو المقياس الأمثل لمقارنة مستويات المعيشة بين الدول ورصد الفقر، وعدم المساواة، وقياس التقدم التنموي المنجز ومتابعة التحولات الاقتصادية طويلة المدى بناءً على الإنتاجية، وليس علي تقلبات أسعار العملات.

لكن ما زال الناتج المحلي الإجمالي الاسمي صالحا والأنسب لمقارنة وضع دولة ما في النظام المالي العالمي والتجارة الدولية، وأسواق النقد الأجنبي وأسواق الأسهم والثروة السيادية وحجم سوق الاستيراد والتصدير ولفهم عبء الديون بالعملات الأجنبية على دولة ما.
بالنسبة للسودان ولجميع دول الجنوب فان دروس النهضة الصينية هي الأنسب لنا لأنها حدثت في أمس قريب وفي هيمنة نفس الظرف العالمي الذي نعيشه بكل علاقات القوة وتوازنات الجيبوليتيك ولكن مع ذلك لا تتم دراسة التجربة الصينية بما يكفي ويتم تجاهلها ربما الإرتباط النخب بالغرب وبسبب أن التجربة الصينية تنسف كل المقدسات الإقتصادية والسياسية الليبرالية المهيمنة علي عقول النخب القائدة.

معتصم اقرع
معتصم اقرع
معتصم أقرع