عندما بكى عبد الوهاب
الدكتور عبد الوهاب عثمان حكى لي قصة مذهلة.. قال لي إنه لما تولى كرسي وزير المالية.. وكانت البلاد لحظتها تتضور من أزمة اقتصادية جعلت العملة السودانية (الدينار آنئذ) تنهار على مدار الساعة.. وارتفع التضخم إلى ثلاثة أرقام (مذهلة).. في تلك اللحظة كرس عبد الوهاب كل جهده من أجل السيطرة على سعر العملة والتضخم..
وبدأت العملة السودانية المريضة تستجيب للعلاج شيئاً فشيئاً.. ارتفع سعر العملة المحلية في مقابل الدولار بصورة مطردة.. وبدأ التضخم يذوب كالشحم تحت حرارة الطقس.. وتذوق السودانيون لأول مرة منذ ثلاثة عقود طعم الاستقرار الاقتصادي..
قال لي عبد الوهاب: فجأة وبدون سابق إنذار بدأ الدولار يصعد بقوة.. أدرك عبد الوهاب أن هناك طارئا لم يكن في الحسبان.. قال لي إنه حبس نفسه في المكتب يبحث ويستفصي ليعرف أين الثغرة التي منها تتدفق المياه لتغرق العملة السودانية بعد أن تعافت..
قال لي عبد الوهاب إنه ظل ليل نهار يبحث.. إلى أن كانت المفاجأة الصاعقة.. اكتشف الوزير عبد الوهاب الثغرة.. قال لي بكل تأثر: “دخلت إلى مكتبي وأغلقت الباب بالمفتاح.. وبدأت أبكي..” تنهد بألم كبير وقال لي: “بكيت مثل الطفل الصغير.. بصوت عال.. واستمر بكائي حتى انهارت قواي..” سألته: لماذا بكيت؟؟ تصوروا ماذا قال لي..
قال لي عبد الوهاب إنه اكتشف أنها مؤامرة مدبرة من وزير آخر.. وزير مهم.. من المؤتمر الوطني.. ومن سنام وصدارة الحركة الإسلامية..
المؤامرة دبرها الوزير الآخر لكي (ينفس) السياسات المالية الناجحة التي اتخذها عبد الوهاب.. حتى لا يقال إن عبد الوهاب نجح في الذي فشل فيه الآخرون..
لهذا بكى عبدالوهاب كالطفل.. ليس بسبب المؤامرة فحسب.. بل لأن الطعنة الغادرة كانت من الأقربين (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند)..
لكن المؤامرة لم تكن ليرتاح لها بال طالما أن الوزير يسبح عكس التيار..
السياسات الاقتصادية التي نفذها عبد الوهاب بكل صرامة وحزم ضربت مصالح الكثيرين.. خاصة عندما أحكم السيطرة على الإعفاءات الجمركية والضريبية.. وكانت عالماً هائلاً من المال العام المستباح..
بعد حين من الدهر.. سيق اتهام للوزير عبد الوهاب بأنه مطية أجندة (حزب المؤتمر الشعبي) الذي كان انشق لتوه من المؤتمر الوطني تحت وابل من القصف العنيف المتبادل بين شقي الحركة الإسلامية.. ذلك التفاصل الذي وصل حد امتشاق السيف..
لم يحتمل عبد الوهاب مثل هذا الاتهام الجائر.. ذهب إلى مكتبه، لملم أوراقه وقدم استقالته واختفى عن الأنظار.. كتبت في تلك الأيام في عمود حديث المدينة (في أخيرة صحيفة الرأي العام حينها) من باب التحليل وحاولت قراءة أزمة عبد الوهاب مع الحكومة. قال لي عبدالوهاب إنه لما قرأ العمود اندهش جداً لدقة وصف المؤامرة التي يتعرض لها.. لدرجة أنه توقع أنني حصلت من مصدر معلومات على التفاصيل.. لكن بصراحة كان مجرد تحليل بقراءة شواهد الظرف القائم لحظتها..
الحكومة كلها ذهبت إلى عبد الوهاب في منزله ترجوه أن يعود.. بعد الضغوط.. استجاب وعاد ليكمل وضع موازنة الدولة للعام الجديد.. وما إن أكمل المهمة بنجاح حتى أقيل من الوزارة..
كان واضحاً أن مشكلة عبد الوهاب أنه غير قابل للكسر.. أو المساومة..
خرج عبد الوهاب من الوزارة إلى ميدان العمل الخاص.. غير آسف على الكرسي..
لكن بكل أسف.. أخذ معه ضميراً كان السودان في أمس الحاجة إليه في مثل هذا الموقع الحساس..
وليلة أمس الأول.. كتب عبد الوهاب الجملة الأخيرة وذهب.. إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر..
اللهم إنا نشهد له أنه أدى الأمانة وأوفى التكليف.. فأوفه ما رحمتك أهل له..
[/JUSTIFY]حديث المدينة – صحيفة اليوم التالي
[Email]hadeeth.almadina@gmail.com[/Email]