الصادق الرزيقي

وتنوحُ عاصفةٌ من النجومِ المهروِلة!!

[JUSTIFY]
وتنوحُ عاصفةٌ من النجومِ المهروِلة!!

«أ»
على أواخر أيام مايو.. في النصف الأول من السنوات الثمانين من القرن الماضي، الخريف ورائحة الدعاش والأغنيات تراها مقبلة من عينيها كزوارق بلا أشرعة تنزلق على صفحات الماء، وكانت عيناها مسمرتين على مشهد خارج الزمان والمكان.. في فراغ تهويمي عريض!!
قالت لأترابها والصيف يحتضرُ.. والخريف يسرج خيله والمزاريب البعيدة في أقصى الجنوب تتأهب.. قالت لهن:
«ما يحيرني في السياسة.. زوجي عبد الله ترن ترن..»
كانت لا تفهم عن ساس يسوس شيئاً، تجاوزت الثلاثين من عمرها بسنة واحدة، طويلة فارعة، سمراء في لون الرمال توهجاً كما يقول عبد القادر الكتيابي، حادة النظرات، فيها مخائل ذكاء لا تخطئها العين، تضع ثوبها حين تلبسه على كتفها اليمين على طريقة لبس النساء التشاديات للثوب مخالفة طريقة إخواتها السودانيات اللائي يلبسنه على اليسار، بالرغم من أنها سودانية صميمة ولدت وتربت في المدينة وليست لها حتى امتدادات مشتركة لقبيلتها.
«ب»
زوجها عبد الله ترن ترن، إسكافي حاذق ومجيد.. له محل في سوق المدينة، دكان من الزنك، رفوفه ملئت بالأحذية المصنعة بلدياً، المراكيب، الجزم، أحذية النساء المختلفة، ورفوف أخرى وضعت عليها المواد الخام لهذه الصناعة البلدية المهمة، أنواع مختلفة من الجلد الصناعي «باكتة بألوانها المختلفة» ومقاسات من «الربل» الذي يستخدم أرضية للحذاء، وعلب مادة «نوكرين» بلونها الارجواني او الاقرب للبنفسج، وعلب بمقاسات مختلفة لمسامير النقالة «مسامير الشيش» الصغيرة القصيرة سوداء اللون، وملفوفات موضوعة بعناية للجلد الطبيعي المخصص لصناعة المراكيب .. جلود النمر الفاخرة الغالية الثمن وجلد الماعز وجلود الأصلة والثعابين الضخمة.. وأحياناً توجد جلود للقطط الخلوية «كديس الخلاء» أو جلد ثعلب مكار!!
وتناثرت ما بين الرفوف وأرضية المحل، أنواع مختلفة من «القوالب» وهي الأقدام الخشبية التي توضع داخل الأحذية لشدها قبل مرحلة الحياكة أو اللصق بالنوكرين، وتوجد مقاسات مختلفة من هذه القوالب، وتناثرت بكرات من الخيوط خاصة خيط العصب الذي تحاك به الأحذية والمراكيب وعدد من الإبر والجبادات والمثقاب «القداد ــ المخرز»، وعلى كتلة خشبية تستخدم كسندان تتوسط أرضية المحل أمام كرسي الإسكافي وهو شبيه بـ «البنبر» يوجد مقص حديدي ذو مقبض أسود اللون، وبعض معدات العمل، على طاولة في ركن المحل وضع جهاز راديو تسجيل من ماركة (JVC) يصدح من شريط منصفون الفنان العاقب محمد الحسن الفنان المفضل والأثير للإسكافي ترن ترن.
«ت»
قالت لأترابها بسخرية لاذعة:
«أبو عيالي دا .. جن والله .. خلى المراكيب والشباشب .. واتلهى مع ناس الاتحاد الاشتراكي وتابع السياسة».
ثم تحكي كيف تحول الزوج والحرفي الذي يتقن عمل يده، إلى إكسسوار في المشهد السياسي للمدينة في الحي الذي يسكن فيه، في الوحدة الأساسية على مستوى البناء التنظيمي لهياكل الاتحاد الاشتراكي.
في ليلة من ليالي الشتاء الجافة، بينما كان عبد الله الملقب بـ «ترن ترن» نسبة لانضمامه في بواكير صباه لفرقة غنائية محلية في أحد أحياء أقاصي المدينة تغني تحت ضوء «الرتاين» أو نور القمر.
في تلك الليلة الشتائية كان عائداً إلى بيته، مثل ليث أنهكته رحلة صيد ومطاردة طويلة، كان يعبر الميدان مثاقلاً فوجد في فناء المدرسة الابتدائية، تجمعاً سياسياً لأهل الحي والأحياء المجاورة له، فجلس على الأرض ووضع كيساً يحمله فيه مؤونة أسرته من اللحم والخضار والطماطم ومطحون الفول السوداني وعدد من الأرغفة الطرية، و «صرر» صغيرة الأكياس بها فول سوداني محمص وحلاوة سمسمية لأطفاله وحبات من حلاوة «دربس» الشهيرة.
كان اللقاء لقاءً سياسياً لأمين قسم المدينة وأمين المنطقة بالاتحاد الاشتراكي السوداني الحزب الحاكم يومذاك، تعجب ترن ترن من حديث السياسة وهو يلامس أذنه، وطريقة المتكلمين والمتحدثين وعباراتهم المفخمة وحناجرهم التي تمرنت على اللغة الهتافية المنتفشة كريش ذيل الطاؤوس.
جذبته السياسة بخيط غير مرئي، كساحرة شريرة عندما تنصب شراكها لفريستها بخيوط ناعمة، دغدغت ثنايا نفسه التي كانت لا تعرف غير صيانة أرجل الناس، بخور السياسة تسلل إلى مناخيره التي تزاحمت فيها ريحة مادة النوكرين اللاصقة، وتمشت نقرات السياسة الإيقاعية إلى طبلة أذنه التي عرفت فقط طرقاته على رؤوس مسامير الشيش على كعوب الأحذية وتئن منها كتلة الخشب في محله العتيد، وتلك ضربات حافظت على توازنه الداخلي السمعي والإيقاعي لسنوات، قبل أن تقتحمها إيقاعات السياسة الحامية.
فغر في البداية فاه، لجرأة المتحدثين وطلاوة لغتهم وقدرتهم المدهشة على حياكة ثوب الحديث وزركشته بالوعود الكِذاب والعِذاب.. سرت في جسده الضخم رعشة عارمة عندما حدثته نفسه بأن يخوض مع الخائضين..
في فرص التعقيبات والأسئلة تقدم الصفوف، وصوت الربل أسفل مركوبه العالي يهزه كما الريح المتمهلة تداعب أغصان أشجار المانجو وتحركها.. عندما وصل المنصة كان له صوت جهير جهور.. يخرج من أعماقه كهدير رعد غاضب، نبرته عالية فيها حشرجة تصطك بها الكلمات في حلقومه، وكان يجيد لغة الجسد (Body language)، استخدم يديه وهزات رأسه والتفاتاته مثل ديك عجوز، في التعبير عن قضايا الحي والمنطقة المحصورة في التعليم والمركز الصحي المتهالك وكوامر البوليس والإندايات والنقص المريع في «الألطجية»!!
«ث»
التقطه حذاق السياسة من تلك اللحظة، رأى فيه خبراء الاتحاد الاشتراكي في دقائق محدودات من الأداء التعبيري الآخاذ، مشروعاً سياسياً محلياً يجيد حرفة «الزرماطي» السياسي بلا منازع …لا يدري هو نفسه، كيف أدخلوه في المسرب اللولبي للتألق كقيادة جماهيرية محلية الصنع والدور .. ولا كيف صيغت هويته الجديدة وتم ترتيب انضمامه ونيله العضوية التي لم يتشرف بها في حياته يوماً.
ولم تمض أيام قلائل من الاجتماعات واللقاءات والاستقطابات، حتى حدث له التحول السياسي وكان تحولاً خارقاً أشبه بالتحولات البيولوجية المعقدة، فقد نقلته السياسة من أمام السندان الخشبي ورائحة الجلود المدبوغة والنوكرين وطعنات مسامير الشيش على ابهامه، إلى أفق ومساء لم تألفهما جناحاه ولم تعرفه ذراعاه حين يصطفق الموج والمضطرم المتلاطم.
لكن اكتشف بسرعة فائقة وفي زمن وجيز، أن دنيا السياسة، مثل صناعة الأحذية!! يصنع الحذاء من مواد نظيفة وبدقة وإتقان، لكن الأحذية هي التي تمر بالقاذورات ويدخل بها المراحيض وتدوس على أعقاب السجائر وبقايا سفة التمباك ويعبر بها على النفايات ولا يستطيع صاحب الحذاء بعد استخدامه أن يمسكه بيديه أو يرضى بمداسه التحتي.
وجد السياسة.. كقعر الحذاء في حقيقتها وكوجه الحذاء العلوي في شكلها وبهرجها ولمعانها حين تلمع بالورنيش..
وقرر وهو في لوثة اكتشافه الجنوني.. ان يتبتل منافقاً في محراب السياسة.. تغير مظهره فترك ملبس العمل اليومي وجلاليب البوبلين والتترون والدبلان، وصار يلبس السكروتة والزبدة والأقمشة الراقية وعمم التوتل السويسري، وأخذ لنفسه لأول مرة من رفوف محله الذي صار يزوره في الأسبوع مرة، مركوب نمر فاخراً يتبختر به في المؤتمرات الفئوية والقطاعية وأمام تحالف قوى الشعب العاملة ومؤتمرات الوحدات الأساسية.. وفي زيارة جعفر نميري الشهيرة للمدينة قبيل إعلان الشريعة الإسلامية عام 1983م بعدة أشهر.
«ج»
قالت زوجته لأترابها .. والصيف يحتضر:
«لقد تغير من إسكافي حنون وبسيط … إلى سياسي من الطبقة العاشرة .. جيبه ممتلئ بتصاديق الأكشاك والدكاكين وكوتات السكر.. وتراخيص السلاح من التجتجي إلي البندقية أب عشرة ثم البازوكا»
أتت رائحة الدعاش .. والإسكافي الذي لبس جلد السياسي .. توهج لزمنه القادم، صارت له لبسات أنيقة مثل الأفندية واقتنى بدلة راقية بربطة عنق من موضة الستيناتمن، عريضة مخططة، يتباهى بها ويقول لأصدقائه:
«دي كرافتة أنتوني كوين ما لبس زيها ..»
كانت زوجته ترفل في الثياب الجديدة وتسمع رنين الذهب في معصميها في أماكن المناسبات وسط النساء، وكان الرنين له وقع مختلف، تركت تلك الأحذية التي كان يصنعها لها بنفسه، لبست النوع المستورد ولبس أطفاله الأحذية الجلدية المتينة من شركة «باتا».
وكان هو يرفل في ديباج تهويماته والحلي السياسية والحلل… ويوم سقطت مايو … مر بمحله في السوق تحسس الزنك والباب ذا الضلفتين … ودخل ببطء من يدخل مكاناً مقدساً.. وتناول علبة نوكرين جديدة فتحها… غمس أصابعه الخمسة في النوكرين ثم شبك أصابعه العشرة …وفرك النوكرين.. وهو يغني لغير العاقب محمد الحسن أغنية الأمي لأبو داؤود:
زرعوك في قلبي ..
يا من كساني شجون ..
ورووك من دمي.. يا اللادن العرجون.
[/JUSTIFY]

أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة