دارفور … بعض التفاؤل في الأفق
بعد فترة جمود وغموض، تعود إلى السطح قضية دارفور فى ثَـوب جديد يغلب عليه النشاط وبعض الأمل، مع الإقرار طَـبعا بصعوبة الحلّ المنتظر، من حيث عناصره ومدى جدية الأطراف الذين يدّعون حمل الهم «الدارفورى» على أكتافهم.
لكن هذه الصعوبة المرجّـحة، لا تعنى أبدا استحالة الحلّ المنشود، الذى تعمل عليه أطراف عدّة، عربية وإفريقية ودولية.
ويبدو المشهد الرّاهن إيجابيا بعض الشيء، مقارنة بما كان عليه الوضع في مطلع العام الجاري. وبعض إدّعاءات الحكومة السودانية حول استتْـباب الأمن في مناطق مختلفة من الإقليم، تبدو صحيحة بعض الشيء.
فعملية العودة الطوعية للنّـازحين إلى قُـراهم مستمرّة، وإن ببُـطء. فقد عاد حوالي 165 ألف نازح من مُـجمل 450 ألف نازح في ولاية جنوب دارفور، تركز أغلبهم قريبا من نيالا، عاصمة الإقليم، وجاري مساعدة آخرين راغبين في العودة إلى قُـراهم للاستفادة من موسم الأمطار، الذى يبدأ في شهر يوليو الجاري وزراعة أراضيهم، في محيط تجمّـعاتهم السكنية المختلفة.
ولكن الشكوى من نقْـص الغِـذاء وغياب الدولة في القرى التي عاد إليها أصحابها، والخوف من عودة العِـصابات والمسلّـحين المجهولين مرّة أخرى، يقلِّـل من وتيرة العودة الطّـوعية لنازحين آخرين، ما زالوا يفضِّـلون حدوث مؤشِّـرات أفضل عن الأمن وتوافُـر الغذاء وحياة طبيعية في الاسواق المحيطة، وهي، أي العودة الطّـوعية، إن حدثت بمعدّلات أسرع، فسوف تضيف إلى موقف الحكومة الكثير والكثير، على الأقل ستظهر صِـدق أقوالها وأن خططها في السيطرة على بُـؤر التوتّـر باتت فعّـالة، رغم استمرار التمرّد المسلح.
العودة الطّـوعية ليست سوى جزء من المشهد «الدارفوري» الأكثر تعقيدا وتشابُـكا مع ملفات أخرى، أبرزها تدخّـلات دول الجوار، والتي يمكن تصنيفها إلى تدخّـل حميد يسعى إلى مُـساعدة الأطراف المعنية للوصول إلى تسوية سياسية شاملة، وآخر تدخّـل خبيث يُـسهم في زيادة التوتّـر وإفشال جهود التسوية بوجه عام.
هذان النّـوعان من التدخّـل تنافسا فيما بينهما طوال فترة السنوات الخمس الماضية، والغلَـبة كانت للتدخّـل الخبيث الذي أفشل جهودا عربية وإفريقية عدّة، تطلّـعت إلى إنهاء التوتر ومساعدة الحكومة السودانية وحركات التمرّد المسلّـح، على تسوية المسألة بشيء من التوازن بين مطالب إنهاء التّـهميش المشروعة من جانب، والحفاظ على وحدة واستقرار الدولة السودانية من جهة أخرى.
الوضع الرّاهن يبدو مُـختلفا بعض الشيء، فالدّور الأمريكي إبّـان إدارة بوش، الذي مارس الضغوط واحدة تِـلو الاخرى على الحكومة السودانية، تغيّـر إلى النقيض في الشهور الأولى من إدارة أوباما، حيث الانفتاح على الحوار مع الحكومة السودانية والمؤتمر الوطني الحاكم جنبا إلى الفرقاء السوادنيين الآخرين، فضلا عن المَـيل إلى الضغط المحسوب على حركات التمرّد لتكون أكثر جدية والتِـزاما بالتّـفاوض والحلّ السِّـلمي وإلقاء السلاح، وتشجيع كل محاولات الحلّ الشامل، أيّا كان مصدرها، بل هناك مؤشِّـرات أن البيت الأبيض يفكِّـر في التدخّـل المُـباشر على خطّ المفاوضات بشأن دارفور.
هذه العناصر مُـجتمعة، عنَـت تغييرا كبيرا في عناصر الصورة وأعادت بناء التّـوازن السياسي حول دارفور، وهو ما أدركته بعض وليس كل حركات التمرّد، والتي باتت أقرب إلى التعاطي الإيجابي مع مساعي عربية، بهدف توحيد الصفوف والرؤى، قبل العودة مرّة أخرى إلى مائدة المفاوضات، التي لم يعُد هناك مفرّ منها.
في هذا السياق، تبلوَر أحد أهمّ التغييرات المعنوية في أن فِـكرة حسم الصِّـراع عبر السلاح، باتت محلّ شكّ كبير، كما أن اللّـعب على التناقُـض بين الولايات المتحدة والسودان، أصبح متعذِّرا بعض الشيء، خاصة في ضوء تعيين البيت الأبيض مبعوثا خاصا للسودان، هو سكوت غرايشن، وهو الذي أظهر دعمه للمفاوضات بين الحكومة وحركات التمرّد «الدارفورية» وتأييد وحدة السودان، وأن تكون تدخّـلات دُول الجِـوار بالمعنى الإيجابي البنّـاء، وليس عكس ذلك، والاستعداد لمعاونة المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية، شريكا لاتفاق نيفاشا على تجاوز ما بينهما من خلافات عبْـر الحوار، وصولا إلى تطبيق مُـناسب وسَـلِـس ومقبول للاتفاق، وفقا لفتراته الزمنية المحدّدة.
في مثل هكذا بيئة إيجابية وتعطي للحوار أولوية، أصبح للتدخل الحميد فرصة للنجاح، بعد استيفاء الشروط من قبيل الانفتاح المتبادل بين حركات التمرّد والطّرف الوسيط، واستعداد الأطراف للحوار والمطالب المعقولة، والأهمّ من ذلك، تحقيق الأمن للناس البُـسطاء، الذين يتحدّث الجميع بإسمهم دون تفويض، اللّـهُـم سوى السِّـلاح والقهر.
وفي مثل هذه البيئة الجديدة، قررت الدبلوماسية المصرية أن تخْـطو خُـطوة إلى الأمام، استنَـدت في جزء كبير منها إلى سلسلة من اللِّـقاءات والحوارات، بالتنسيق مع ليبيا، طوال ما يقرُب من ثمانية أشهر، مع قادة حركات التمرد الدارفورية، وتمثلت الخُـطوة الجديدة، في جمع قادة سبع فصائل في القاهرة في لقاء سُـمي ملتقى القاهرة لدعم وحدة الصفّ الدارفوري وعُـقد لمدة ثلاث أيام في الفترة ما بين 12 و14 يوليو الجاري.
كانت الرسالة المصرية واضحة تماما، وهي أنها على مسافة واحدة من كل القادة والحركات الدارفورية، بما في ذلك حركة العدل والمساواة، التي لم تُـشارك في الملتقى، ولكنها تتواصل مع القاهرة بانتظام وشفافية، كما أن القاهرة تطلع حكومة الخرطوم على حصيلة تلك اللقاءات والمشاورات.
ووفقا لهدف الملتقى الذي حدّدته القاهرة، هناك سقفان: الأول، أن تتّـحِـد هذه الفصائل في هيكل تنظيمي موحّـد وأن يقود هذا الهيكل الجديد أحد الفصائل لمدّة شهر، وِفقا لترتيب يتّـفق عليه، أو الثاني، أن تتّـفق هذه الفصائل على رُؤية تفاوضية واحدة. وفي كل منهما، فإن الحرب والسِّـلاح ليس لهما مجال، بل المفاوضات والتسويات المقبولة، هما الخيار الوحيد.
الفصائل بدورها بحاجة إلى بِـناء الثقة فيما بينها عبْـر حوار معمّـق. فكثير من هذه الفصائل انبَـثقت من فصائل أخرى، نتيجة تنافُـس على الزّعامة السياسية أو القبلية أو العسكرية، ولِـذا، فإن بناء الثقة عبْـر الحوار وتحت رعاية وسيط وطرف له ثِـقل عربي ودولي، بدت مَـدخلا مُـناسبا ومُـلائما للَّـحظة التاريخية الرّاهنة.
والظاهر، أن خيار الهيكل التنظيمي الموحّـد لم يجِـد الصّـدى المناسب لدى قادة الفصائل المُـشتركة في الملتقى، في حين بدت الفوارق في الرُّؤى التفاوضية والمَـطالب مِـن أي تسوية مُـنتظرة، فوارق ضئيلة، وهو ما يعطي الأمل في جولة حوار أخرى بعد شهر، مثلا أن تتوصّـل هذه الفصائل على تلك الرُّؤية التفاوضية ويبقى بعدها عِـبء التواصل عبْـر القاهرة وبالتنسيق مع ليبيا على إدماجٍ كحدٍّ أقصى أو التنسيق كحدٍّ أدنى مع حركة العدل والمساواة مع هذه الرؤية التفاوضية الجماعية حال الوصول إليها، وكذلك التواصل مع حركة تحرير السودان بزعامة عبد الواحد نور، للهدف ذاته، وهو عِـبء لن يكون بسيطا، خاصة وأن العدل والمساواة تَـعتبِـر نفسها الأكبر والأقوى والأكثر انتشارا في دارفور وفي مناطق مختلفة من السودان، وهو ما لا تقبله الفصائل الأخرى، التي تعتبِـره مجرّد إدّعاءات ومبالغات.
على كلٍّ، لا توجد خِـلافات جوهرية حول المطلوب من أي تسوية لمأساة دارفور، فكل الفصائل اجتمعت على منع التهميش والمشاركة في السلطة والثروة، حسب نِـسبة السكان، والاحتفاظ بسلاح الفصائل لمدّة انتقالية، ثم دمج أفراد هذه الميليشيات في الجيش السوداني وحلّ مشكلة الحدود مع تشاد وصرف التعويضات للمتضرِّرين ووِحدة الإقليم وعودة الأراضي المسلوبة إلى أصحابها وتنمية الإقليم وبنيته الأساسية.
وبينما تُـراهن مصر على تحفيز حركات التمرّد لإلقاء السلاح بعيدا والتوحد في الموقف التفاوضي، تُـراهن الحركات على بناء ثقة مُـتبادلة وعدم الفشل، منعا للخضوع لضغوط دولية وعربية قد تُـفقِـدها أي دور في المستقبل.
(عن سويس انفو)
حسن أبو طالب :الصحافة