عثمان ميرغني

لو.. أعطونا ثمن الوقود فقط

[JUSTIFY]
لو.. أعطونا ثمن الوقود فقط

والدي- متعه الله بالصحة والعافية- كان يعمل في السلك المحاسبي لوزارة المالية.. منذ الأربعينيات.. ولهذا طاف معظم السودان.. جنوب السودان “القديم”.. ثم جبال النوبة.. ثم دارفور الكبرى.. ثم عاد إلى الوسط مصنع سكر الجنيد.. ومنها إلى مصنع سكر حلفا الجديدة.. وأخيراً استقر في الخرطوم “هيئة توفير المياه”..

يحكي لنا دائماً.. أنه بذل كل جهده لأن تمتد فترة خدمته في دارفور أطول مدة ممكنة.. ويبرر ذلك من أجل هدف واحد.. هو (ضمان أفضل تعليم لأبنائه!!).. ومن أصل سبعة أبناء وبنت واحدة.. ستة ولدوا في دارفور.. اثنان في نيالا.. واثنان في الفاشر.. واثنان في الجنينة..

وللتدليل على بعد نظر وصحة رؤية والدي.. كل إخواني الذين تلقوا تعليمهم العام في دارفور، كان نصيبهم أن يدخلوا جامعة الخرطوم وبتفوق.. وكل إخواني الذين تلقوا تعليمهم العام بعد عودة والدي من دارفور- في الخرطوم.. لم يحالفهم التوفيق بدخول جامعة الخرطوم فتفرقوا في جامعات أخرى (ومنهم أنا كاتب هذه السطور إذ هاجرت طلباً للعلم في القاهرة).

عندما يصدر كشف تنقلات موظفي الدولة – حتى السبعينيات – السعيد منهم من يجد نفسه منقولاً إلى أي بقعة في دارفور.. خاصة مدينة نيالا (وهي مسقط رأسي).. فالرخاء وسعة الحال.. كان يوفر لهم إقامة بأقل التكاليف.. مع توفر الخدمات بصورة عامة..

لكن أين دارفور الآن؟؟ الخارج منها مولود.. والداخل إليها مفقود.. التمرد يمزق أوصالها.. والنزوح والتشرد أنضب الأيادي التي كانت تضخ في الاقتصاد السوداني عافية الإنتاج.

عكس اتجاه عقارب الزمن نمضي.. كوريا التي كانت في الستينيات بلد شدة.. شعبها بائس فقير.. هي اليوم قلعة اقتصادية عملاقة تملأ شوارع الخرطوم بالسيارات.. العالم كله إلى مستقبل أفضل.. إلا نحن.. من ماض (أفضل) إلى مستقبل (أضل)..

والمدهش.. أن ما نحصده من حاضر تعيس.. ليس محض صدفة.. بل مخاض جهد كبير.. كفاح من أجل الشقاء.. بالله احسبوا معي.. دعكم من الأموال التي تحتاجها الفصائل المقاتلة في دارفور لشراء السيارات والأسلحة والذخائر والمؤن ثم دفع رواتب الشباب المقاتلين.. انسوا كل ذلك.. احسبوا معي كم تبلغ (التكلفة التشغيلية!).. فقط بند المحروقات.. الذي تحتاجه سيارات الدفع الرباعي التي تمزق هدوء الليالي والأرياف الجميلة بهدير ماكيناتها وزئير رصاصها وقنابلها..

لنفترض أن عدد المركبات العاملة في جميع فصائل التمرد حوالي ألف مركبة.. كم تحتاج من وقود وزيوت للحركة؟؟

كم توفر هذه الأموال من (مصروفات تشغيلية) للمدارس في دارفور لتنجب أفضل التلاميذ لأفضل مستقبل..

لو تحولت مصروفات سيارة دفع رباعي واحدة.. لتمول تعليم عشرة فقط من أبناء وأطفال دارفور.. لوفرت هذه السيارات جيلاً من الأطباء والمهندسين وكافة التخصصات الأخرى.. بأفضل تعليم.. تماماً كما كان عليه الوضع في الماضي الجميل.. حينما أصر والدي على البقاء في دارفور.. بحثاً عن تعليم أفضل لأبنائه..

لكن الذي يمزق قلبي أكثر.. أن أقرأ تصريحات لرئيس البرلمان السوداني.. يقول: “ما يحدث في دارفور مؤامرة إسرائيلية!!!”..
[/JUSTIFY]

حديث المدينة – صحيفة اليوم التالي
[Email]hadeeth.almadina@gmail.com[/Email]