فلمَّا تَبَدّى النَجمُ قلتُ لصاحبي!!
«أ»
كانت عيناه أشد قسوةً من عيون الطغاة، وشفتاه أغلظ من قلوب الظالمين العتاة!!
ثم رقصت على صفحات الماء، ضحكات هازلة سكبتها صبايا تلك القرية النائية عند متكأ البئر، وتيس عجوز من أغنام الرعاة وهم يستقون.. يغوص في الطين، كما غاص ذلك الرجل القاسي الأعين والنظرات والشفاه الغليظة الذابلة، في طين الدهشة التي سكنت حدقاته وتفجرت في ناظرية كما ارتعاشات الإياب!!
وقال لنا صديق من تلك القرية، إن الذي تلده الذاكرة الشعبية من أساطير ومرويات عن هذا الرجل يملأ أعشاش وأقنان القرية بأفراخ زغب من الخرافات الباهتة، كأنه هو ومخيال القرية الشعبي، تدليا من سقف غير مرئي من زمان مضى ويتأهبان للخلود حتي زمان آتٍ.
ثم ردد صاحبنا بصوته المتهدج المتحشرج كلثغة المولود في ذاك النهار الغريق.. قول بدر شاكر السياب:
فيرجع لي من ندائي نحيب
تفجر عنه الصدى
أحسّ بأني عبرت المدى
إلى عالم من ردى لا يجيب
ندائي
وإمّا هززت الغصون
فما يتساقط غير الردى
حجار
حجار وما من ثمار
وحتى العيون
حجار وحتى الهواء الرطيب
حجار يندّيه بعض الدم
حجار ندائي وصخر فمي
ورجلاي ريح تجوب القفار
«ب»
تورد وجه النهار، وخد السحاب علاه إحمرار خفيف، وأتت ريح خريف تجر وراءها همهمة الرعود البعيدة، تجهم وجه الرجل الجالس على دكة خشبية، كتمثال صخري قديم، واضعاً يديه على ركبتيه ينظر في سأم للعابرين، وللخطوط المتعرجة التي خلفها أحد رجال القرية وهو يجر غصناً شوكياً جافاً تناثرت أشواكه على الطريق الترابي الأغبر، وكان ثمة من يحكي عن هذا المتكوم على نفسه ودواخله كأنه يجتر كالبقرة الهرمة ذكريات تعمقت في نفسه كسرداب يشبه بيتاً من بيوت النمل!!
كان أرجل باهت الملامح إلا من قسوة عينيه وغلظة شفتيه، يداه ضخمتان طويلتان متقوستان ككفي وذراعي غوريلا من غابات كينيا والملايو، له رأس ضخم ضخمته كما يظن الهموم وهجير الحياة، طويل كسارية أو كعود شعبة بلاه الزمن وطال به العهد في عراء عريض، له رجلان مائزتان في الطول والحجم، وقدمان تشبهان أخفاف الإبل، لكن أصابع قدميه منتفختان كدود «مانا» الذي يشبه قطع النقانق، بشاعة أسنانه وشدة إصفرارها أضافت لوجهه المنتفخ وشدة سواد بشرته وعينيه المحمرتين القاسيتين، بعداً آخر في سيرالية الملامح وما تخفيه الضلوع.
«ت»
قال صديقنا.. ونحن في قريته النائية.. «هذا الرجل قاتل»!! وانتبهت كل حواسنا وكل عيون الطير المندفعة في هجرتها من أقصى الأفق لهذه الكلمات ..
رمقنا بنظرات حانقة، كأفعى قلقة احتقن السم والعطب في أنيابها، تململ في مكانه لأننا دخلنا بلا مقدمات حمى تاريخه المنسي والمخفي، تتمزق أحشاء عالمه الغامض كلما أبصره الناس عن قرب ونبشوا في تراب أزمنته السالفة، تقيأت هيئته كل الريبة التي تسكنه.. أجال نظراته حولنا كقناص محترف يبحث عن مقاتل طرائده!!
أشار بأصبعيه المترادفين إلى صديقنا مستفسراً عنا، مما شجعنا على الاقتراب منه.. وكان النهار يرفل في تجلياته الخريفية، أخبره صديقنا أن صحبته هم أصدقاء قادمون من المدينة البعيدة، من المدرسة الثانوية العليا في نيالا.. جاءوا لزيارة القرية في عطلة نصف السنة لقضاء أيام في الريف البديع ..
صمت برهة.. ثم تنهد ومد بصره إلى سحابة داكنة تكومت في سقف الفضاء أمامه.. مد رجليه أمامه كمن يركل الحياة بما فيها، طقطق أصابع يديه الجافتين، وأظافر أصابعه كأظلاف العجول الصغيرة أو حوافر البغال.. كان له عكاز «مضبب» مكسو بجلد قط بري كما يبدو من بقايا الصوف عليه.. وعلى ذرعاه الأيمن ومن تحت إبطه تدلت سكين ضخمة خرقت مقدمة نصلها الحادة غمدها الداكن.
تجشأ.. بصوت مخيف كأنه يلفظ ما في جوفه وقلبه، وقال:
«صحي أنا كتال كتلا ..»
«ث»
كنا في ذلك العمر الغض، نسمع فقط بالقتل ومرتكبي جريمته من بعيد في حكاوي الناس والقصص العابرة، وحشت سينما كامل دلالة بنيالا والكتب التي نأخذها من مكتبة عبد القديم وأجاثا كريستي وأرسين لوبين وكتيبات المغامرات لمحمود سالم، خيالاتنا بصور رجال العصابات والقتلة، ولم تتكون صورة حقيقية وتتجسد في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي إلا بالتي أمامنا في القرية الصغيرة الوادعة.. لم نر حتى تلك اللحظة قاتلاً بلحمه ودمه وشحمه وقساوة عينيه وإحمرارها.
قال لنا.. ودعاش الخريف يودع في جناح فراشة عند النهار، رائحته من كل اتجاه، وتطفئ الشمس لمعانها من بين خلل السحاب، والخوف يملأ كل مسامنا يتنزى من جلودنا.
«كنت قاتلاً.. ذبحت بيدي أكثر من ثلاثة وعشرين رجلاً أو يزيد..»
ارتجفت فرائصنا .لكنه واصل ..
«في هذه المنطقة.. كنا نسرق ونعربد بشرب المريسة ونتصارع حول النساء في شبابنا.. وفي منتصف الستينيات حدثت الحرب في تشاد.. دخلت مجموعات ونزحت أخرى وجاءت طبائع وأخلاق غريبة كعادة كل حرب تأتي بقاذوراتها.. انفلتنا من أوتادنا كجياد جامحة.. لا أفق أمانا ولا تعليم سوى طيش الشباب.. وصرنا في هذه الفلوات مجموعات صغيرة ننهب ونعتدي ونتقاتل.. في هذا الخلاء العريض الواسع، مملكتك هي سيفك وحرابك ثم أخيراً بندقيتك.. صديقك الحميم والوفي هي السكين التي في «ضراعك» لا تفارقك في صحوك ومنامك.. تعلمنا قطع الطرق ونهب صغار التجار نطمع في كل شيء.. هناك من قتلناه من أجل ساعة جيب أو راديو ترانستور أو جلابية سكروتا او مركوب نمر أو نظارة بيرسون سوداء أو حتى سن ذهب..».
صمت برهة مع دوي رعد في الأفق الغربي وكان فيه سحاب أحمر لم يمطر، والشمس هنالك مسجون والريح تدور كطاحونة!!
«ج»
رفع الكم الأيمن من جلبابه القصير، كانت آثار الندوب والجروح القديمة على ساعده وذراعه كأخاديد باقية، بصق بقوة وبصوت مسموع على الأرض بلا اكتراث ولا ذوق.. ومضى في سرده كمن يزيح صخرة ضخمة من صدره:
«لاحقتنا السلطات آنئذٍ دخلنا السجون والمحاكم، تقرحت أرجلنا من قيود وسلاسل الحديد، كنا نخرج من السجون يعدم بعضنا ويطلق سراح الكثير منا لعدم ثبوت شيء أو عدم كفاية الأدلة أو ربما حجابات ومحاية «حاج ترتار» ..«ضحك وقهقه بصوت مفجع وهادر وراعد.. وقال بلكنته البلدية الموغلة في سخريتها:
«والله.. بطني كم شربت فوقو برميلين من محاية حاج ترتار، كلو شوية»
وانفرجت أساريره وهو يحكي:
«سجنت عشرات المرات، اقتربت من حبل المشنقة مرات ومرات، وهربت أكثر من أربع مرات.. عشت ما يقارب العشرين سنة يداي ملطختنان بالدم مثل قلبي وفؤادي …صور القتلى مازالت أمام وجهي كل يوم.. لا أنام.. تحاصرني في صحوي ومنامي.. مازلت أذكر وجوهاً كثيرة في بطون الخيران والوديان والبطاح وعند سفوح الجبال.. لكن وجهاً واحداً مازال يؤرقني.. وجدناه في حقله سقانا ماءً وأخذنا حماره بعد أن قاسمناه طعامه فاستل حربته وقاتلنا كنا أربعة، ساعة كاملة لم نستطع التغلب عليه فغافلته وضربته بفرار «بفأسي» علي كتفته فخارت قواه فأجهزنا عليه.. لكنه مات كفارس وركز عليّ عينيه المفتوحتين بقوة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وقد عقد حاجبيه.. نظرة فيها تحدٍ ورجولة.. شعرت من تلك اللحظة أنني ضعيف وجبان ورعاش ومرتعب.. لم يفارقني هذا الوجه أبداً.. وهو سبب مفارقتي لمجموعتي من النهابين واللصوص والمجرمين.. رجعت لقريتي هنا.. لكن أرواح ضحاياي في كل مكان هنا.. هنا تسجنني… تحاصرني …تحاكمني.. أبدو أمامها مثل «جعران حقير»!!
ثم صمت.. كانت عيناه تقفان على جراح في قلبه.. وأتت ريح خريف تجري خلفنا وخلف خطاه.. وسحابة النهار تلطخت بالدم وأحمّر وجه النهار والشفق يلون سارية الأفق الغربي.. وربما جاء صوت من سحيق سحيق الزمان للشاعر الاندلسي صفي الدين الحلي:
لئن ثلمت حدي صروف النوائبِ
فقد أخلصت سبكي بنار التداربِ
وفي الأدب الواقي الذي قد وهبتني
عزاء من الأموال ومن كل ذاهبِ
وكم غاية أدركتها غير جاهد
وكَم رتبةٍ قد نلْتُها غيرَ طالبِ
وما كلّ وانٍ في الطِّلابِ بمُخطئٍ
ولا كلّ ماضٍ في الأمورِ بصائبِ
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة