تحقيقات وتقارير

هل سيبقى شارع النيل؟!.. تساؤلات حائرة :مهنـدسو المشروع: سنـردم ولكــن..؟!

كانت النسمات الباردة تمسح على ملامح الوجوه علامات الرضاء والارتياح، ومشهد النيل تنساب مياهه باتجاه المقرن تبعث في النفوس قدراً من البهجة، على الرغم من اصوات السيارات المسرعة التي تمر في الطريق تجعل من التحفز امراً لازما، فالحركة على جانب النيل وعلى امتداد شارع النيل لا تتجاوز الثلاثة امتار في احسن احوالها ما بين طريق الاسفلت والحاجز الاسمنتي المطل على النيل. وعلى الجانب الآخر كانت مدينة الخرطوم بحري تبدو متأنقة وهي تزدان بالخضرة لتجعل من الوقوف والنظر من شارع النيل سحرا لا يشاركه فيه مكان آخر.
وما بين حركة المتنزهين على الشارع والاشجار الظليلة، بدأ الحديث عن مشروع التوسعة لهذا الشارع يثير جزءاً ن همسات رواد هذا الشارع ذي الطابع الخاص، ويعلو احيانا عندما تتجاذبه احاديث المدينة المكتظة بالسكان والسيارات، فمشروع التوسعة الذي تجاوزت ميزانيته اكثر من 32 مليون دولار، اعتبره الكثيرون مدعاة للترف غير المستحب من جانب ولاية الخرطوم، فيما كان آخرون يعتبرونه من ضرورات التنمية والتقدم الحضري للسنوات القادمة. ولكن فريقا بين هؤلاء واولئك كان ينظر للمشروع باعتباره غير موفق بيئياً، او من حيث اختيار المكان الصحيح لتنفيذ المشروع.. فهل كان اختيار هذا المشروع غير موفق؟ وما هي المخاطر البيئية التي قد تترتب على قيام مثل هذا المشروع؟ وأصدرت وزارة البنية التحتية بولاية الخرطوم بيانا اشارت فيه الى انها لن تردم شبرا واحدا من مجرى النيل الازرق، وفقا لما نشر من نص البيان بجريدة «الصحافة» بتاريخ 3/8/2009م في عمود «بشفافية» الذي جاء فيه: «ولعلم الجميع أن مشروع توسعة شارع النيل لا يمس النيل إطلاقا .. فالتوسعة التي ستتم داخل مجرى النيل ستكون في شكل اعمدة خرصانية مثلها ومثل أي جسر آخر داخل النيل بفروعه المختلفة بولاية الخرطوم .. اى أن الموضوع لا جديد فيه ولن يتم ردم شبر واحد من مجرى النيل الازرق، فالتوسعة ستكون في شكل جسر محمول على أعمدة، أي أن لا مجري النيل ولا مياهه ولا شواطئه ستمس بسبب عمليات التوسعة، كما أن الحديث عن أن الولاية فضلت الإبقاء على المباني التاريخية وردم النيل فهذا حديث عارٍ من الصحة ولا يسنده المنطق لأن هذا الجزء ليس معنياً بالتوسعة في الاصل.
إن هذا المشروع ليس ضرباً من ضروب الترف، إنما عمل جاد يتسق مع الجهود والخطط التي تنفذها الولاية لحل الأزمة المرورية ويدخل المسار الجديد الموازي لشارع النيل الحالي ضمن هذه الخطة مع إدراك الولاية التام بحكم مسؤوليتها الأولى عن البيئة». ويمضي البيان قائلا: «كما أن هذا المشروع ليس وليد اللحظة، فالدراسات المسبقة والتخطيط له قد تمت قبل فترة، والجديد فقط هو حصول الولاية على تمويل لتنفيذه، وعن النواحي الجمالية ومسارات المشاة.. فإن الولاية حريصة على عدم حجب الرؤية عن النيل .. وأن هناك مشروعاً لانشاء مساحات خضراء خالية من الموانع على طول ضفة النيل الازرق استكمالاً لما بدأ في هذا الجانب في المساحة الممتدة من شرق وزارة الطاقة وحتى جسر القوات المسلحة التي أصبحت متنفساً عاماً ترتاده الأسر.
أما الحديث عن أن هذا المشروع ليس أولوية، وإذا كان للولاية قدرة على توفير تمويل، فالأولى به مشاريع المياه والصرف الصحي والتعليم، فلعلم الجميع أن التمويل لم يقتصر على هذا المشروع، فالولاية حصلت على تمويل في حدود 250 مليون دولار لمشاريع المحطات الجديدة لمياه الشرب والشبكات، كما أنها حصلت من البنوك المحلية على تمويل في حدود 400 مليون جنيه لخطتها لبقية العام الحالي 2009م، وعلى رأس هذه الأولويات المياه والتعليم والصحة.
عموماً نقول إن النيل الأزرق بمجراه الضيق لا يحتمل أية ردميات .. لأنه ببساطة كلما ضاق المجرى زاد تهديده للمناطق المطلة عليه في زمن الفيضانات، فكيف يعقل أن تزيد الولاية على نفسها عبئاً جديداً بردم النيل».
الا ان التفاصيل عن المشروع في تصوراته ومجسماته التي أعدتها الشركة، تبدو بعيداً عن احاديث الكثيرين، وكان الوصول الى الشركة المنفذة للمشروع امر تقتضيه الضرورة، لانها تعتبر الجهة الوحيدة التي تمتلك المعلومات التفصيلية عن المشروع. وقد التقيت في الادارة الهندسية بالشركة بالمهندس رضوان محمد أحمد والمهندسة مذاهب الطيب اللذين اوضحا لي جوانب المشروع وفقا للرسومات الهندسية في ردهما على تساؤلاتي عما هو الجديد الذي يحمله هذا المشروع، فقالت المهندسة مذاهب: إن المشروع يمتد على طول 2.6 كيلومتر من جسر توتي وحتى جسر المك نمر، وخلال هذه المسافة ستكون هنالك خمسة جسور بطول ضفة النيل الازرق الجنوبية، جسر من امام واجهة القصرالجمهوري المطلة على النيل، وجسران آخران بين وزارة المالية وبرج وزارة العدل ووزارة الداخلية حتى جسر توتي، بالاضافة الى جسرين باتجاه الشرق والغرب يمتدان من جسر المك نمر على شارع النيل. ويضيف المهندس رضوان: وستقوم هذه الجسور بتخفيض الضغط المروري على شارع النيل، فالتوسعة لمسارين، غير أن السؤال الذي ظل يشغل الكثير من الناس عن الردم لمجرى النيل هل فعلا كما تقول الوزارة لن يتم ردم شبر واحد!؟ قالت المهندسة مذاهب: إن المشروع به مسافة 880 متراً اعمال خرسانية وواحد كيلومتر وسبعمائة وعشرين متراً «1.720» كلم كبارٍ طائرة، وهي تقوم على أعمدة خرسانية، ولكن هنالك مساحات سوف نقوم بردمها، وهي في معظمها لن تؤثر على مجرى النيل، وقد تمت دراسات بيئية وهيدروجية، وأثبتت أن الردم سيتم في مناطق على ضفة النيل، وسوف يقام جدار خرساني ويكون عرض الجسر فوق سطح الماء حوالي 10 امتار تفصيلها 7 امتار طريق اسفلت و 3 امتار لسير المشاة، كما أن المشروع لن تتم فيه ازالة الاشجار الضخمة الموجودة الآن على شارع النيل.
ولكن هنالك ثمة امور قد تبدو في حاجة الى توضيح اكثر لمثل هذا المشروع الذي تقول عنه المهندسة مذاهب: إن هذا المشروع ميزانيته تقدر بـ 35 مليون دولار لتكتمل اعماله خلال 18 شهراً. ووفقا لبيان وزارة البنى التحتية المذكور، فإن الميزانيات لهذا المشروع قد توفرت، فيبقى سؤال الاولويات بارزاً في اجندة الجمهور، هل توسعة شارع النيل أولوية ام هناك قضايا اخرى تحاصر الاحياء الطرفية تبدأ من ازمة وجبة افطار تلاميذ مدارس الاساس بالخرطوم، وأمور أخرى تخص وزارة البنى التحتية مثل مصارف الأمطار وغيرها، ولكن هنالك من ينظر الى الأمر من زاوية اخرى كما يقول الدكتور هاشم الخليفة استاذ الهندسة المعمارية في الجامعة الاهلية والناشط في القضايا الهندسية في جمعية حماية المستهلك، الذي قال لي ان الامر يمكن النظر اليه بشكل اكثر ايجابية، فالتخطيط لهذا المشروع في تقديري قد راعى جوانب متعددة في مقدمتها الرؤية المستقبلية للوجه الحضاري للعاصمة المتقدمة بعد عدد من السنين، حيث يراعي هذه الجوانب من نواحٍ معمارية، الى جانب أن هذا الطريق يمكن أن يعالج مشاكل الاختناق المروري في شارعي الجامعة والبرلمان، ولكن هنالك جوانب يمكن أن يفقدها المشروع للوضع الحالي لشارع النيل، مثل مساحة الرؤية التي كان يتمتع بها المتجولون على الشارع، وتمت محاولة معالجتها بوضع مسارات للمشاة، كما من الممكن الاستفادة من بعض المساحات التي يمكن أن تنشأ تحت الجسر المعلق مع المجرى بشكل سياحي.. عموماً فإن المشروع من خلال النظر الى سلبياته وايجابياته فإن من الممكن اعتباره يحتوى معالجات ايجابية.
غير أن المشهد على شارع النيل كان يبدو ساحراً وكأنه يلوح بالوداع لأمواج النيل في فيضانه، التي بدأت ترتفع شيئاً فشيئاً، لتحتضن بعض رمال شارع النيل الذي قد لا تلتقيه بعد عامها هذا.
أمين أحمد :الصحافة