الأورطة السودانية في المكسيك.. التاريخ المنسي!!
«أ»
كانوا كالذي يصعد سلالم الغيوم، بحثاً عن مجدٍ بعيد..بعيد ، غير أنهم لم يكونوا إلا ذلك التاريخ المجيد، الذي ثقلت موازينه وأبى أن يذهب أدراج الرياح.
أرضعت عروقهم اليابسة الشمس ، وروى ندى الغمام إخضرار القلوب والسواعد والجلود ، وكأنهم كانوا يدمدمون خارج الزمان والمكان ، مثل الشاعر العراقي أديب كمال:
البحر لم يرسل لنا نجماً صغيراً كما أوعدنا به
البحر أوعدنا كثيراً ولم يف
البحر لم يرسل لنا طوق نجاة
البحر ضيعنا وضاع
السفن البعيدة
لكن ما السفن البعيدة
عادت محملة بويلات الصدى
الموج يذهب حيث يأتي
يأتي ليذهب والطيور
ألق خرافي يدور
٭٭٭
البحر قد يبكي وقد تبكي النجوم
لكنما لا شيء يبقى للتذكر أو يدوم
٭٭٭
الشمس تهبط والغروب
ألق يذوب
ما لي أراك مهيأ للنفي والسفر البعيد
ما لي أراك مهيأ كدم الشموس
«ب»
في الثامن من يناير عام 1863م، كان ميناء الإسكندرية في مصر، يودع «453» سودانياً صميماً، هم كامل الأورطة العسكرية التي بعث بها الخديوي محمد سعيد باشا، لتذهب إلى المكسيك دعماً للقوات الفرنسية التي كانت تقاتل وحدها هناك بعد أن أنهكتها الحرب وانسحاب حليفتاها إنجلترا وأسبانيا، على إثر الأوضاع العاصفة في المكسيك وحروب العصابات والاقتتال الدموي في تلك البقاع القصية، وعجزت كل من إنجلترا وفرنسا وأسبانيا عن حماية رعاياها، وحماية سلطة الحاكم «ماكسيمليان» الذي كان يراد تنصيبه هناك.
طلب إمبراطور فرنسا نابليون الثالث من خديوي مصر، دعمه وإنقاذ الموقف ومساعدة قواته التي تقاتل في ظروف صعبة وبالغة السوء في المكسيك.
اختار الخديوي الأورطة السودانية المكونة من أربع «بُلكات» قوامها «453» من الضباط وضباط الصف والجنود، وعُين البكباشي جبر الله أفندي قائداً لها وينوب عنه اليوزباشي محمد أفندي مياس.
«ت»
مع الرياح الشتائية العاتية في مطلع يناير، كان البحر الأبيض المتوسط يزمجر وعبابه يتعالى، عندما تحركت سفينة الأورطة السودانية، شمخت أشرعتها وصواريها الشاهقة في أذن الشمس والجوزاء، ومخرت فوق الموج المتلاطم، تقول ذاكرة منسية إنه في أول ليلة… كان الجنود السودانيون تحت الأغطية والملابس الثقيلة ووطأة البرد، يتأملون نجوم السماء في ليلة حالكة السواد تتوامض النجوم فيها مثل المجهول الذي ينظرون إليه وهم إليه ذاهبون.
كانوا من مشارب ومنابت مختلفة من أراضي وأنحاء السودان التركي المصري يومئذ ، منهم من عكف على قراءة القرآن الكريم والأدعية والأكف في ضراعة، وقلة منهم تجمعت تترنم بدوبيت وألحان ووتريات مشتعلة الحنين للأهل والوطن والأتراب والتراب ، ومنهم من طفق يغني غناءً يرشح منه الشجن المعذب..، لم يشهد البحر الأبيض المتوسط منذ أناشيد الإلياذة والأوديسا لهوميروس، ملحمة فيها من المناجاة والمواجد والحنين والشجي والتطلع والغناء والألم واعتصار النفوس والصبر، مثلما كانت في تلك الليالي وهي تشرب ضوء الأعين والأفئدة السودانية الذاهبة إلى العالم.. البعيد البعيد.. ومثلما امتلأ البحر الأبيض المتوسط حتى اتخم بالتواريخ العتيقة والأساطير، كانت تلك السفينة، تحمل في جوفها عالماً كاملاً وثقافات عتيدة مهاجرة وألسناً مختلفة وحكايات وأقاصيص وألحاناً وأشجاناً شديدة التوهج ، ضاع من التاريخ توثيق لحظاتها بدقة، وذهبت كلها إلى أحضان الزمن ومسامع الكون الفسيح وتردد صداها في آذان النجوم اللامعة وفي ثنايا وأوشحة الظلام.
«ث»
عندما عبرت السفينة بمحمولها العجيب مضيق جبل طارق، كانت نوارس البحر تحمل للصخور والأمواج، صوراً من سحيق العصور، والعيون السودانية بدهشتها العارمة تتأمل في إهتيام صوفي الصخور ونتوءها والجبل وهامته الرمادية والمضيق الذي تلامست ذراعاه ، لعلها تبحث عن ملامح لطارق بن زياد وعصور الأندلس الزاهية ،وجياد بني أمية التي كانت موصولة بجياد …
وعندما عبرت السفينة المضيق مودعة مياه المتوسط، لتدخل في الأفق الغربي العريض تمد عنقها الأشهب للمحيط الأطلنطي« بحر الظلمات» في ذلك الشتاء العنيف، أحسوا جميعاً أنهم فعلاً ذاهبون للمجهول!!
كانت الأنواء قوية والرياح عالية والعواصف لا تسكن أبداً والموج يتعالى ويضرب بقوة ويصل لبطن السفينة وداخلها ، تمزقت بعض الأشرعة ، وحامت وانتشرت الحمى والأمراض المعدية بين الجنود الذين دخلوا لعرض المحيط ، زاد السعال في الليل البهيم وارتجفت الأجساد النحيلة العجفاء، لكنهم كانوا أشد في عزيمتهم من الموج المتلاطم وكانت رباطة الجأش عندهم تدهش مرافقيهم الفرنسيين وموفد الإمبراطور ومبعوث الخديوي الذي تشامخ أنفه فخراً برجال الأورطة السودانية.
ربما يكون هناك خاطر عجيب.. مرَّ وحام وحلق مصفقاً بجناحيه حول السفينة وممرها المائي الطويل نحو المكسيك… «هل هو نفس المسار الذي حاول عبره بعض القادة والخلفاء المسلمين في الأندلس والممالك في المغرب العربي، اكتشاف العالم الجديد وما وراء بحر الظلمات قبل قرون طويلة من رحلة كريستوفر كولومبس..؟» «وهل هذا هو ذات الاتجاه والمسار الذي أرسل فيه أحد ملوك الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا ألف سفينة لمعرفة ما وراء هذا المحيط العريض ولم تعد تلك السفن »؟!!
«ج»
كانت كل موجة من موجات المحيط الأطلسي تحكي قصة ورواية ومن بينها قصص الرِّق البغيضة، وهي أكبر وصمة في تاريخ البشرية عندما كان الأوروبيون والمهاجرون إلى أمريكا، ينظمون عبر المحيط رحلات تجارة الرقيق واقتياد الأفارقة من مواطنهم الأصلية نحو أوروبا وأمريكا، وتشهد أمواج البحر أن «50» مليون إفريقي، ماتوا غرقى في المحيط أو أُلقيت جثثهم فيه، و ابتلعت الحيتان والأسماك المرضى الذين يلقون أحياءً في قاع المحيط العميق، وتلك قصص ستبقى وشم عار إلى الأبد في جبين وجلد الحضارة الغربية.. مهما تغطى الغرب برداء الإنسانية وحقوق الإنسان.
فذات المسار الذي سارت فيه سفينة الأورطة السودانية، سار فيه قبل نصف قرن تقريباً قبلهم، المركب الذي حمل «فيلكس دارفور» ، الذي ابتيع رقيقاً من دارفور لفرنسا ومنها هاجر إلى جزيرة هايتي وصار من قادتها ومثقفيها حتى اغتياله هناك في عملية تحرير واستقلال تلك الجزيرة الصغيرة.
«ح»
لم يهدأ المحيط ولم تهدأ زمجرته،تتزاحم فيه قصص القراصنة وحكاية الحوت«موبي ديك» وأساطير البحار، كانت كلها تحاصر السفينة وركابها السمر الغر الميامين ، حتى دخلت البحر الكاريبي الذي كان في ذاك الأوان يتشكل لغوياً وثقافياً وحضارياً وازدهى في تلك الأزمنة وقد امتلأت بلدانه وخلجانه وجزره بالوافد إليها من ثقافات أوروبية وإفريقية وعربية شرقية وأندلسية، تمحورت في الآداب والفنون واللغات والأزياء والسحنات والأعراق والألوان.
كانت السفينة التي تحمل الغناء السوداني والتصوف والدين والدوبيت والمسادير والأحاجي والرطانات ، تستعرض نفسها وما تحمله في خليج المكسيك.
وصلت الأورطة بعد نزولها أراضي المكسيك، إلى مدينة «فيراكروز» في 23 فبراير 1863م، وانخرطت مباشرة في مهامها القتالية، وخاضت أكثر من «12» معركة عسكرية حامية الوطيس، ضد المجموعات العسكرية المتمردة والعصابات، واستطاعت القوة العسكرية السودانية، أن تحقق انتصارات باهرة، وكبدت عدوها خسائر فادحة، ولم تمض أيام على القتال حتى تم تحصين مدينة «فيراكروز» ومواقع أخرى للفرنسيين، وتذكر مرويات التاريخ والكتب التي صدرت عن هذه الأورطة، أن القائد الفرنسي، كتب إلى وزارة الحربية الفرنسية في باريس إلى القائد العام للجيش الإمبراطوري، خطاباً أشاد فيه بالجنود السودانيين جاء في فقرة منه ما يلي:
«لم أر من قبل في حياتي ثباتاً في المعارك مثل ثباتهم، إن شجاعتهم لا تصدق، إنهم ليسوا ببشر إنهم أسود».
(Never in my live I seen Such Steadiness in abattle their bravery was incredible they are not amen but Lions).
هذا ما جاء عنهم بالنص في كتاب «عمر طومسون» عن هذه الأورطة، وبعد أربع سنوات وانتهاء الحرب في المكسيك بدأت العودة في «12 مارس 1867م» بعد أن قامت بحماية عمليات بناء السكك الحديدية في المكسيك والمناجم والمدن التي نشأت تحت الأمن والطمأنينة التي وفرتها هذه الأورطة.
«خ»
عندما عادت بعد انتهاء المهمة إلى فرنسا ، استقبلت استقبالاً أسطورياً بالمارسليز وأقيم مهرجان عسكري ضخم حضره الإمبراطور نابليون الثالث، وتمت فيه ترقية الضباط والجنود ومنحوا أوسمة الشرف الإمبراطوري. ثم عادوا إلى مصر واستقبلهم الخديوي إسماعيل الذي خلف الخديوي محمد سعيد. وتم الاحتفال بالأورطة ورقي أفرادها، وعادوا للسودان.
لكن الغريب أن بعضهم لم يعد من المكسيك، فقد تزوجوا وبقوا هناك، فهل الوجوه السمراء والخلاسيون والخلاسيات هم بعض نسل أجدادنا.. هؤلاء؟ وهل الذين نشاهدهم في المسلسلات المكسيكية بعض بقايا سودانيتنا التي هاجرت؟
المهم أن قائد الأورطة البكباشي جبر الله أفندي محمد توفي في المكسيك بالحمى الصفراء ودفن هناك.
أما بقية الأورطة فقد عادت وشاركت في حملات صمويل بيكر في الاستوائية ويوغندا، ولخبرتها في حماية المدن استعان بها غردون باشا لحمايته من هجوم الأنصار بقيادة الإمام المهدي عند حصاره للخرطوم.. وتلك قصة أخرى كما قال الطيب صالح في موسم الهجرة للشمال …!!
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة