خاف الله يا خال ..!!
في طفولتنا كان الحرامية يجعلون من سكان الثورات (حيطتم القصيرة) .. كل يوم ناطين في بيت زول، وقد كان نصيب (بيتنا) عبر السنوات الكثير من الزيارات الغير المرحب بها، وما أذكره بوضوح بعد تلك الزيارات، هو محاولات أبي ومعه (رجال الجيران) تقصي أثر (كرعين الحرامي) .. نط من وين وطلع بي وين ؟ وبعد قيام أبي بالتبليغ في القسم كانت نفوسنا تكاد تطير شعاعا خوفا ورهبة وشمار، عندما يأتي الكومر يحمل رجال البوليس وفي صحبتهم القصّاص .. الغريبة انهم كانوا في كل مرة يتابعوا خطوات الحرامي في الشارع حتى يختفوا عن الأنظار .. ثم لا نسمع عنهم خبر فنستعوض الله في سرقتنا !
(القصّاص) هو من يتقن مهارة (قص الأثر) ، حيث برع واشتهر بها سكان الصحراء فقد كانوا يتتبعون آثار حيواناتهم وابلهم عندما تضل .. حقيقة، بهرتني مهارة قص الأثر من زمان، وكنت أعجب بقصص براعة العرب قديما في تقصي الأثر، ومنها أن خطوة الجمل الذي يحمل أثقالاً على ظهره عميقة ومتقاربة، أما الجمل الذي لا يحمل ثقلاً فيكون أثر خطواته واسعاً وقدمه على سطح الأرض واضحة، وإذا تبين أثر لجمل ظهرت فيه الأرجل الأمامية مع الخلفية فهذا الجمل يجري وهو يحمل شيئاً، أما إذا كانت خطواته منتظمة فهذا يدل على أن الجمل طبيعي لا يحمل شيئاً، كما أن الطريق التي تحتوي أعشاباً تكشف عن إمكان الرؤية عند الجمل، فالجمل الأعور يأكل من جهة واحدة في الطريق حيث يرى بعينه السليمة ..
ورغم إضمحلال دور قص الأثر والقصاصين في وقتنا الحاضر، إلا أن اهل القرى والريف يستعينوا بهم في تقصي (أتر) الحرامية ومن ثم القبض عليهم لعدم توفر نقاط شرطة قريبة تقوم بهذا الدور كما حدث في قصتنا:
0 في إحدى قري البطانة حيث مهارة قص الأثر في عنفوانها ولم تطمرها رمال التحضر والمدنية بعد وجميع السكان من الأهل ولا يوجد بينهم إلا القليل من الغرباء والذين بدورهم إمتزجوا في نسيج سكان القرية وصاروا منهم بمثابة الأهل.
وقف (مختار) من على البعد يراقب عربة التاكسي والتي عاد بها حاج (التكينة) من رحلته للمدينة.. نزل منها وهو ينادي على إبنه ليساعده في حمل كرتونة (مروحة الطرابيزة) الجديدة التي جلبها معه من سوق رفاعة .. أضمر (مختار) في نفسه سرقة تلك المروحة كي يفك بها ضائقته الماليه ومعاناته من الفلس والبطالة فقرر أن يعود لزيارة بيت (حاج التكينة) ليلا لينجذ مهمته.
إستيقظ (ود الضو) أشهر قصاصي الأثر والذي يعيش في تلك القرية في الصباح الباكر (دغش) على صوت طرقات عالية على بابه الزنك القديم، تبسمل وتحوقل وإستعاذ بالله من طارق الفجر إلا أن يكون طارق خير ثم فتح الباب ليجد (حسين) أبن حاج (التكينة) الشاب، حياه في سرعة وبأنفاس متهدجة قائلا:
السلام عليكم يا عمي ود الضو .. أبوي قال ليك ألفاهو بسراع .. تعال قص لنا أتر الحرامي الجانا البارح !!
أسرع (ود الضو) بدرع جلبابه من فوق المسمار ونفض طاقيته من ما علق بها من غبار ثم إنطلق مع (حسين) نحو دارهم وهو يستفسره في الطريق عن ما سُرق منهم وهل رأى أحدهم اللص، ولكن (حسين) أخبره بأن اللص لم يتمكن من سرقة شئ لانهم إستيقظوا على صوت حركته ففر هاربا ولذلك أرسل ابيه في طلب القصاص حتى يصلوا لمكان أختباء اللص.
بموهبته الفذّة في قص الأثر أنطلق (ود الضو) يتبع آثار اللص وكل القرية بما فيهم (مختار) ابن شقيقته خلفه .. تابع (ود الضو) الآثار على الطريق بمهارة متوجها صوب بيت شقيقته .. توقف لفترة متفكرا وهز رأسه في حيرة وإلتفت يرمق ابن شقيقته (مختار) بنظرات نارية غاضبة ثم واصل مسيره الصامت، ولكنه لم يلبث أن توقف مره أخرى يرمق (مختار) بنفس النظرات دون أن يقول شيئا.
إرتعب (مختار) وتلجلج بعد أن فهم معنى نظرات خاله والواقع بين نار خيارين أحلاهما مرّ، فأما أن يدّعي عدم توصله لمعرفة السارق واما أن يفضح ابن شقيقته ولكن غلبه الحق فوقف في عزم والتفت نحو (مختار) وقبل أن يتمكن من قول شئ صاح فيه الأخير بخوف شديد:
خاف الله يا خال !!
[/JUSTIFY]
منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]