تحقيقات وتقارير

انفلات في أسعار السلع

انفلات غير معهود شهدته كافة السلع الضرورية في اليومين الماضيين، بعد انفراج استمر لثلاثة ايام في سلعة السكر التي تراجعت من «130» جنيها للجوال زنة «50» كيلوجراما الي تراجع ال« «104» جنيهات اثر قيام شركة السكر الوطنية بفتح مراكز للبيع للمستهلك، بيد ان الاوضاع تصاعدت بما يشبه الانفلات يومي الخميس والجمعة اذ طال غول الغلاء وتصاعد الاسعار كل السلع الاستهلاكية، فقفز سعر جوال السكر «50» كيلوجراماً الى «135» جنيها في وقت شهدت فيه مراكز البيع للجمهور كثافة اسهمت في عرقلة انسياب البيع، كما ارتفعت اسعار البلح ووصل سعر الربع من العينة قنديلا الى «80» جنيها، وارتفعت باقة الزيت الصغيرة سعة الرطلين من الزيت الى «6,5» جنيهات ووبلغ سعر المتوسطة «14» جنيها، فيما بلغ سعر القارورة الكبرى «25» جنيها، وطالت الزيادة كافة السلع الرمضانية من بليلة وكركدي وتبلدي وعرديب، وشملت الزيادة الذرة التي تعتمد عليها كل الأسر السودانية، فقفز سعر ربع الدقيق الى «15» جنيها للعينة فتريتة، فيما بلغت اسعار العينة الاكثر جودة مثل طابت وود احمد لتتراوح اسعارها بين «18-20» جنيها للربع الواحد، وطالت الزيادة سلعا استراتيجية اخرى، وفي سوق الخضر فقد ارتفعت اسعار اللحوم الى «16» جنيها للكيلو من العجالي، وتفاوتت اسعار الضأن بين «16-18 جنيها» للكيلو بعد ان وقفت عبقرية القابين على ان السودانيين يستهلكون لحوم الابقار في رمضان، وبرغم انخفاض كافة الخضروات في الاسبوعين الماضيين، فقد عادت للصعود من جديد ليرتفع كيلو الطماطم الى «10» جنيهات والليمون اربعة حبات مقابل الجنيه الواحد.
والزيادات المضطردة في اسعار السلع وفقا للخبراء مصنوعة، وهي ليست دليل ندرة، وانما استغلال للموقف، فالزيادات بدأت في اسعار السكر التي قفزت الى «140» جنيهاً للجوال بين عشية وضحاها، ما دفع شركة السكر الوطني الى فتح عدد من النوافذ للبيع المباشر، وقد اسهمت هذه المنافذ في بذر الهلع في دواخل التجار ما دفعهم لخفض الاسعار، غير انهم عادوا للزيادة عندما ادركوا محدودية منافذ بيع السكر. ويمضي محمد علي الحاج وهو اقتصادي مشيرا الى صعوبة هبوط الاسعار بذات سرعة تصاعدها، كما ان ارتفاع اسعار اية سلعة له آثاره السالبة على السوق الذي يعتبر وحدة واحدة تؤدي زيادة اية سلعة فيها الي ارتفاع لكافة السلع. واشار محمد الى المحيط الاقليمي لحركة اسعار السلع، فاسواق المملكة العربية السعودية شهدت هي الاخرى ارتفاعا وكذلك مصر وليبيا، كما اسهم في ذلك تجاهل الدولة تشكيل لجان فنية لدراسة السوق والوقوف على اسعار التكاليف وتقديم تقارير دورية للاجهزة التنفيذية لتقوم بضخ السلع ثم تحديد اسعارها.
ان تحديد الاسعار وفق القرارات الادارية سيكون خطيرا جدا، ويجب أن يكون ذلك وفق نهج علمي يتم عبر استحداث ذراع فنية تقوم بمسح السوق لمعرفة موقف انسياب السلع والالمام بالاسعار والتكاليف، على ان ترفع هذه اللجنة او الذراع تقريرا الى فريق من وزارة التجارة وبنك السودان ووزارة المالية لدراسة الامر والوقوف عند اسباب تصاعد الاسعار، فإن كان السبب هو عجز المعروض عن تلبية الطلب تتم التدابير بزيادة الكميات من السلعة حتى يكون هنالك توازن بين العرض والطلب، اما اذا كانت زيادة السعر ناجمة عن ارتفاع اسعار السوق العالمي فيتوجب على الدولة ازالة كل الرسوم والضرائب والجبايات عن تلك السلعة، مع توفير الدعم لبعض الشرائح مثل طلاب الداخليات ونزلاء المستشفيات والسجون. واكبر مهددات حراك السوق وفقا لعبد الرحيم حمدي هو اللجوء لتحديد الاسعار وفق النهج الاداري، لأن نتيجة ذلك التوجه هو دخول السلع للسوق الاسود، ونتيجة ذلك عجز الفقراء عن الحصول على السلع الضرورية، ومن أجل معالجة هذا الارتفاع في الاسعار يجب تفعيل المكون المحلي للعرض بحيث يكون مرتفعاً ويكون مسؤولاً عن تغطية الطلب الكلي، خاصة أن مقومات توفير الغذاء من الانتاج الوطني متوفرة.
الدكتور بابكر محمد توم الرئيس المناوب باللجنة الاقتصادية بالمجلس الوطني، ذهب الى عدم وجود مسوقات منطقية للزيادات الفاحشة التي طالت السلع الرئيسة التي وقعت على المستهلك واثقلت كاهله. ودحض اتهام السياسات الكلية، رافضا القول ان السبب يعود الى القيمة المضافة على اسعار السلع وآثارها الراهنة المتمثلة في زيادة الاسعار التي انعكست على المستهلكين والمنتجين ومقدمي الخدمات بسبب تباطؤ الطلب وتقليل دوران السلع، وبالتالي التأثير السالب على الارباح ومجمل الحراك الاقتصادي
وحول الاتهام الذي يوجهه الخبراء للحكومة بتجاهل خلق جهاز يعني بضبط الاسعار ومراقبتها، يرى دكتور بابكر محمد توم، ان اقتصاد السوق لا يتطلب قيام الدولة بخلق مثل هذه الاذرع، وانما يترك الامر للسوق.
ويشير الدكتور سيد محمد احمد الى بروز قناعات بان الاقتصاد الحر وحتى لا يتحول الى فوضى يتطلب حكومة قوية تضع سياسات سعرية سليمة وتضبط تفلت الجشعين والطارئين على السوق كما، انه يحتاج الى قطاع خاص مسؤول اجتماعيا يضع ما يسمى بمدونات السلوك، ويضبط سلوك عضويته، ويستبعد الجشعين والذين لا يلتزمون باخلاقيات المهنة، كما يحتاج الاقتصاد الحر لرأي عام قوي ورادع ومنظمات مجتمع مدني وصحافة قادرة على كبح المتفلتين والذين يغالون في وضع الارباح، وقبل هذه وتلك فإن الاقتصاد الحر يحتاج الى حكومة تملك قاعدة معلوماتية تضخ كافة المعلومات عن المعاملات والنشاط الاقتصادي والتجاري بحيث يتم جبر هوامش الارباح الزائدة لمنع اي غلو في الاسعار.
قلت للدكتور محمد التجاني الخبير الاقتصادي إن الدولة تتحدث عن مناهضة الفقر، فهل الزيادات التي شهدتها السلع تساعد في تحقيق اهداف الالفية؟ وما هو اثر مثل هذه الزيادات علي اجتثاث الفقر؟ فاجابني ان الاستقرار الاقتصادي وكبح التضخم هو المدخل الرئيس لاتخاذ اية تدابير لمصلحة الفقراء، كما ان اية زيادات في الاسعار التي يصاحبها ارتفاع في نسبة التضخم تعتبر وأداً لاي توجه يستهدف الفقر، الا اذا اضطر الفقراء الى تقليل استهلاكهم، وهذا يعني تراجع نسبة الحد الادنى من الرفاهية التي وصل اليها بعضهم، اما الذين يعيشون الفقر المدقع فإن ارتفاع الأسعار قد يخرجهم نهائيا من تناول الضروريات.
طرحت الامر على الدكتور محمد احمد علي دنقل الخبير الاقتصادي الذي عزا زيادة الاسعار ال« تجاهل قيام الاجهزة التنظيمية المعنية بضبط حركة الاسعار في ظل التحرير الاقتصادي ماضيا في القول: اذا كانت مثل هذه الاجهزة فاعلة في الدول المتقدمة مثل اميركا وبريطانيا، فإنها هدفت لمواجهة اي انفلات كالذي يعانيه الاقتصاد السوداني هذه الايام، مستصحبا لتجربة الهند التي اقامت هيئة قومية للتكاليف والأسعار تعمل باستقلالية تامة عن اجهزة الدولة الاخرى، ويراسها عادة اكاديمي متميز يؤدي القسم امام رئيس الجمهورية قبل توليه مسؤولية الهيئة، ومهمة هذه الهيئة التدقيق في تكاليف واسعار المنتجات زراعية وصناعية وخدمية، وتستفيد الهيئة من مؤشرات الاداء الاقتصادي ضمن تنفيذ مخطط التنمية المنجزة بالبلاد التي تحتوي على حركة الاستثمارات خاصة في ما يتعلق بتضييق الشقة بين الريف والحضر.
ويصف الدكتور دنقل ما يشهده السوق المحلي من غلو في الاسعار بانه فوضى امتدت آثارها على المستهلكين خاصة، وقد طالت هذه الفوضى السلع الضرورية مثل السكن والملبس والغذاء ومنصرفات خدمات التعليم والصحة، علما بأن الاخيرة كانت تقدم مجانا في السابق، اما واجب الدولة فكان حرياً بها ان تقوم بقراءة سليمة لانعكاسات سياساتها حتى يشعر المواطن ويقتنع بانها تعمل لاجله، بيد ان ترك الامور بلا ضابط وتنظيم يزيد من مرارات المستهلكين على جميع المستويات، ويساهم في زيادة معدلات الهجرة من الريف للمدن ومن البلاد للخارج. وفي ختام افادته اتفق الدكتور دنقل مع الذين سبقوه في ان التحرير لا يعني ان تقف الدولة دون اداء مسؤولياتها في الرقابة وضبط السلع.
أستاذ جامعي التقيت به في ورشة وزارة المالية التي عقدتها بقاعة الشهيد الزبير حول تنمية الموارد القومية غير البترولية، طلب عدم ذكر اسمه، حدثني قائلا «ارتفاع الأسعار وحالة الغلو الراهنة سببها السياسات الكلية التي تجاهلت تنمية الموارد القومية واعتمدت على النفط والجبايات، وآخرها زيادة لقيمة المضافة التي اشعلت حريق السوق الراهن الذي يهدد السلام الاجتماعي». واتهم الاستاذ الجامعي وزارة المالية والادارة العامة للسياسات الاقتصادية الكلية، وقال انها فشلت في تنمية القطاعات الانتاجية، مثل قطاع الزراعة والصناعة. وقال الدكتور محمد التجاني الحاج- اقتصادي – إن حالة زيادة رسم القيمة المضافة هي السبب المباشر للزيادات، مطالبا الكف عن الالتفاف حول الاسباب الرئيسة لزيادة الاسعار، مطالبا القائمين على السياسات الاقتصادية الكلية استصحاب توصيات العلماء والخبراء الخاصة بتنمية الموارد القومية، خاصة تلك القطاعات التقليدية التي لها آثارها المباشرة على النسيج الاجتماعي مثل القطاع الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي، مع ضرورة خفض الرسوم الجمركية للعديد من السلع الاستراتيجية. واختتم دكتور محمد التجاني افادته بضرورة قيام ذراع رسمي يعني بضبط الاسعار، خاصة ان ذلك التوجه لا يتعارض مع حرية السوق.
الدكتور التجاني الطيب ابراهيم الخبير بصندوق النقد الدولي، قدم في ندوة اقامتها الجمعية السودانية للامم المتحدة بقاعة الشارقة أخيراً خارطة طريق تتمكن البلاد عبرها من تجاوز مخاطر المجاعات، وتتمثل محاور الخارطة في وضع تشريعات للاسعار، ومنع الاحتكار، ودعم الغذاء بصورة تضمن وصول الدعم للشرائح المستهدفة، ومنح مساعدات عينية خارج الرواتب للعمال، كما تتضمن رؤيته معالجات اسعافية تتمثل في ازالة الرسوم الجمركية عن الحبوب الغذائية، واعطاء حوافز للمنتجين، وتخفيض الضرائب على القطاع الزراعي، وادخال نظام التغذية المدرسية، واصدار قوائم استرشادية بواسطة تجار الحبوب كمؤشر للاسعار، وفي المدى المتوسط اوصى الدكتور التجاني باقامة شبكات الحماية الاجتماعية التي تستهدف الفقراء، والغاء الاعفاءات الجمركية التي تفقد الدولة 6% من موارد الناتج الاجمالي في العام، وازالة معوقات الانتاج الزراعي ورفع قدراته التنافسية ودعم مدخلاته، ونشر الوعي الاستهلاكي، ووضع برامج علمية للنهوض بالاقتصاد، وتوجيه عائدات النفط لتنويع الصادرات الوطنية. وحذر الخبير الدولي من تنامي التوجه الراهن الخاص باستقطاب الاستثمار الاجنبي لتحقيق الامن الغذائي، مؤكدا خطورة مثل هذا التوجه، لانه يرهن ارادة امة وامنها الغذائي للجهات أجنبية، بغض النظر عن انتماءاتها وجنسياتها.
بلة علي عمر :الصحافة