في مدني.. دي كانت حكاية!!
< هذه ليست صورة مجتزأة من خيال قمعي أو من حفريات التعسف السلطوي البئيس الذي بات في متحف غائر في تراب النسيان، لكنها صورة حقيقية نابضة حدثت في ود مدني بولاية الجزيرة أمس. < خمسة من رؤساء تحرير الصحف وأكثر من خمسة صحافيين من محرري خمس صحف، في يوم واحد وفي ساعة واحدة، يساقون كما النعاج والهوام، إلى المحكمة المختصة بقضايا الصحافة والمطبوعات بولاية الجزيرة، لمواجهة بلاغات ودعاوى جنائية ضدهم «98%» منها الشاكي فيها حكومة الولاية السابقة ومسؤولوها، وأكثر من «60» بلاغاً مدوناً ضد الصحافة والصحافيين في ود مدني يجب النظر فيها بعين الريبة والتحقق من القصد وراءها، حيث كان إنشاء نيابة الصحافة والمحكمة المختصة تم في عهد الوالي السابق تحفه رغبة محمومة في تقييد الصحافة وتعويق عملها في الولاية وتخويف الصحافيين من تناول وانتقاد الوضع المأزوم في الجزيرة سياسياً وخدمياً وتنموياً واجتماعياً!! < بالأمس بدت الصورة أكثر وضوحاً من ناحيتين، مما يؤكد أن الغرض من وجود المحكمة والنيابة في ذهن السلطة السياسية التي طالبت بهما ليس توخياً للعدالة وسيادة حكم القانون ورعاية الصالح العام!! وهذا لا يقدح في الاحترام الذي يكنه كل مواطن للقانون والأجهزة العدلية والقضاء، ومجتمع الصحافة والصحافيين من أكثر فئات وشرائح المجتمع الملتزمة والمنادية بذلك، فهم يمتثلون للقانون ويدعون إلى التحاكم والتقاضي في سوح القضاء في حال التضرر من الممارسة الصحفية، لكن في ذات الوقت لديهم العين الفاحصة والتقييم السليم للكيفية التي يُراد بها استخدام سيف القانون في نحر مهنتهم وقهرها وإهانتها. < ولنبدأ في وقائع يوم أمس التي ذهبنا فيها زرافات ووحدانا من خمس صحف كبيرة ومعنا عدد من المحررين المتهمين والمستشارين القانونيين للصحف ومحامين من الخرطوم، للمثول أمام محكمة مختصة بدأت تنظر في الدعاوى المقدمة أمامها في الحادية عشرة صباحاً، لكي تتمكن من استعراض وسماع القضايا الخمس أمامها في الوقت المتاح حتى نهاية الدوام. < ولا بد من النظر في البلاغات المقدمة للمحكمة، ولاحظنا خلال فترة ليست بالقصيرة منذ أن بدأنا رحلة الشتاء والصيف إلى ود مدني في استدعاءات النيابة والمحكمة، أن هناك تعجلاً وسرعة لا نظير لها في تقييم الوقائع في البلاغات وتوجيه التهم في النيابة المختصة، وهذا التقييم السريع وإحالة البلاغ إلى المحكمة لا يتيح أية فرصة للاستئناف في المدى الزمني المحدد له، حيث لا يتمكن المشكو ضده من معرفة ما يجري ويفاجأ بأن الدعوى الجنائية أُحيلت للمحكمة دون أن يطلع عليها والاستئناف لدى المرتبة الأعلى في النيابة. < ثم أن عملية التقييم نفسها تبدو مثيرة للعجب، فالدعوى التي ذهبنا إليها أمس، اتهمت فيها «الإنتباهة» بنشر تعليق صحفي كتبه محرر محترف، عن رسوم فرضتها الإدارية المختصة في بلدية أو محلية ود مدني على تجار السوق الشعبي، وعرض التجار وأصحاب المتاجر الصغيرة والطبالي قضيتهم عبر الصحيفة بألا يوجد مسوغ قانوني ولا قرار أو منشور أو تشريع صادر عن المجلس التشريعي للمحلية، وعلق الصحافي بأن الضابط الإداري المسؤول ليس لديه حل للمشكل ولا عبقرية للحل!! وعلى الفور تم عرض ما كتب على لجنة أمن الولاية مثل كل قضايا الصحافة في بلاغاتها الستين، وتقرر أن يرفع الضابط الإداري المسؤول عن فرض الرسوم دعوى ضد الصحيفة.. ولدينا شهور طويلة نذهب لحاضرة ولاية الجزيرة لإثبات أو نفي معلومة صغيرة تفيد بأن الضابط الإداري «عصام برعي» المسؤول عن فرض رسوم السوق الشعبي.. هو عبقري زمانه أو هبنقة عصره!! < وتواجه صحيفة «اليوم التالي» التي كان معنا أمس رئيس تحريرها الأستاذ مزمل أبو القاسم، دعوى من مستشار الوالي السابق حول فاتورة هاتفه التي بلغت آلاف الجنيهات وتوجد وثيقة تؤكدها، وسبق أن شطبت نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة بلاغه ضد الصحيفة، فخرج من باب القانون ليدخل عبر نافذة النيابة في ود مدني. < ونشرت صحيفة «الجريدة» التي جاء إلى ود مدني رئيس تحريرها الأستاذ إدريس الدومة قضية عادلة تتعلق بإفادات لرئيس اتحاد عمال الولاية عن تجاوزات تدعمها الوثائق حوال أموال في هيئة مياه الولاية، فرفعت حكومة الولاية عبر الهيئة دعوى ضد الصحيفة، والغريب أن وكيل النيابة المختصة التي تلقت الدعوى هو نفسه المستشار القانوني للجهة الشاكية!! < ومَثَل أمام المحكمة الأستاذ بكري المدني بصفته رئيس تحرير سابق لصحيفة «الحرة»، أمام المحكمة في بلاغ من والي الولاية السابق البروف الزبير بشير طه، يتعلق بنشر الصحيفة خبراً بأن الوالي أُصيب بإغماء أثناء وجوده في بيت الضيافة وأجرى فحوصات طبية في المستشفى، وهو خبر عادي وتنشر وسائل الإعلام في كل الدنيا هذا النوع من أخبار المسؤولين الذين يُصابون بالإغماء نتيجة الإرهاق حتى في المناسبات الرسمية ولا ضير في ذلك. < أما صحيفة «الدار» فقد مثل رئيس تحريرها الأستاذ الحارث في بلاغ جنائي حول نشر صورة لقاتل تداخلت مع صورة أخرى. < هذه بلاغات الأمس من جملة الستين بلاغاً، وواضح أن هناك معايب في تقييمها قبل الدفع بها للمحكمة، وقد يكون السبب في ذلك غياب الباع الواسع والإدارك الدقيق لما يرد من معلومات وآراء في المادة الصحفية والأخبار في مرحلة التحري، لأن غياب ذلك لا يعطي المعيارية في تحديد وتقدير الجُنحة التي وقعت فيها الصحيفة، وذلك لحداثة النيابة وفرق التحري بقضايا النشر. < إن ذهاب رؤساء تحرير الصحف بهذه الكيفية المذلة، يفهم منه أن هناك من يريد تعطيل الصحف باقتياد قياداتها من مقار عملهم بالخرطوم وإرهاقهم بالسفر الطويل الذي يضطرهم للعودة مباشرة في نفس اليوم للخرطوم وحجب مشاركتهم في أنشطة أخرى ذات أهمية بالغة، حيث غاب رؤساء التحرير أمس من ورشة إستراتيجية العمل الإعلامي في بادئة ورش مؤتمر الإعلام القومي الثاني. < نحن لا نطالب بمراجعة أو إلغاء نيابة ومحكمة الصحافة بولاية الجزيرة بحجة أن الدعوى الجنائية تكون حيث يقيم المتهم وليس الشاكي.. لكن نكرر القول بأن هذه الفكرة العبقرية أفقدت ولاية الجزيرة الصحافة وجعلتهم يمقتون الذهاب لود مدني ويتعجلون في الخروج منها بأسرع ما يتوفر، بدون رغبة في مقابلة أية سلطة فيها ولو فَرَشَ لهم الوالي الأرض بالأزهار والرياحين مُرَحِّباً. [/JUSTIFY][/SIZE]أما قبل - الصادق الرزيقي صحيفة الإنتباهة