أرى الـــبرق يخطـــف وجهـــــي الـــقـــديــم
«أ»
على الرصيف الصخري لأحلامه الولهى، كان يشب واقفاً كلما ناجته الرياح الباردة ولفحته نار شوقه المقيم في أقصى فياح قلبه المحزون.. امتلأ جوفه بالحنين حتى فاض جدولاً مع مدامعه، وتمشى الشجن في شرايينه وأوردته وقبع في خلاياه حتى لكأنه يشع بما به من شوق لو كان الشوق من فسفور مشع.. لأضاء ما حوله وأنار فجوات العمر الذي قضاه في تلك الأرصفة القصية…
كانت لديه اثنتا عشرة أمنية وحلم، نثرها على وشاح صبره الطويل ينتظر متى تبزغ شمسها ويطل قمرها من بين أهداب الزمن وألوية المواقيت العصية.. لكنه وجد منها ما أناخ له راحلة الغياب الطويل، ومد له بساط الريح أيادي الرحيل والسفر الطويل حتى طمرته من النسيان سافية عاتية، وبقي حيث هو تلال من ذكريات وأقاصيص وأحاجي وأغنيات قديمة ووجوه تلوح حيناً وتغرب في ظلمات المسافات البعيدة النائية..
اشتهى كل شيء ولم يعد يشتهي أي شيء ..!! لامس بكفيه قوس الأفق، ومشط ذؤابات الشمس بيديه الباردتين، ولم تزهر في أمديه عمره الطويل وهو في عقده السابع عشبة من قاع بحار الانتظار الطويل الذي غرق فيه وغاص ..!!
«ب»
في ثمانينيات القرن الماضي، حزم حقائبه كبحار قديم، نفخ بفمه المملوء بهواء الحلم، شراعه الكبير، حمل شهاداته الجامعية وخبراته، وهاجر في بعثة دراسية لبلاد الصقيع وهو قد تخصص في علم نافع ونادر.. كانت الحياة أمامه كزورق من ورق تحمله أمواج الماء في أهدابها وتبلله كما تشاء وتنفخ حوله الريح عابثة في إزدرائية كثيرة التجاعيد تلك التي بدت على وجه الرياح التي تذم شفتيها ساعة الرحيل..
وصل حيث أراد، كقبطان سفينة شراعية قديمه من عصر ما قبل البخار، عاند البحر وعانده، ثم رسا عند مرفأ أحلامه ينتفخ خياشيمه بنصر مزيف على الماء والموج وتلاطمه العسير..
كان يصر على بعث كلمات مظفر النواب عن «عروس السفائن» من مراقدها الوثيرة في ثنايا ذاكرته.. فيردد:
عروس السفائن ألصقتُ ظهري الكسير
على خشب الشمس فيك
حريصاً على الصمت.. مدمى من الناس
في البئر أستنجد البحرَ.. قبل قراءاتِ بوصلتي ودليلي
وأخصفُ ما نهشتهُ الجوارح
من مضغةِ القلبِ أبقِ الجروحَ
مُفَتَحّةً في رياحِ المَمَالِحِ
لا يَحلمُ الجُرْح ما لم يُحَدِّقْ بسكينهِ عابساً
في الظلامِ الثقيلِ
إذاً.. دارت الشمسُ دورتها
وارتأتني الرؤى نائماً تحت ألفِ شِراعٍ
مجوسيةٌ قصتي
معبدُ النارِ فيها
وقلبي على عجلٍ للرحيل
بعيداً عن الزمن المبتلى.. يا سفينةُ
إن قليلاً من الوزر أمتعتي المزدرات
ولم تثقلي بالقليل
سأبقي المصابيح موقدةً في بواء الصباح
مصالحةً بين صحوِ الصباحِ وصحوي
وأُبقِ الرياحَ دليلي
وأسألُ عن نورسٍ صاحبُ الروحِ في زمن البرقِ
يومَ المُحيطاتِ كانت تنامُ بحضني نَشْوى
وما زالَ ثوبي أخضرَ من مائها
يا لهُ من زمانٍ مرَّ بين ألفٍ من السنواتِ الفتيةِ
يا وَجْدُ ما كُنتَ دون حَمَاسٍ.. وما ظَلَّ في خَاطِري الآن
إلا النشيجَ اللجوجَ من اللججِ النيلجية..
والزَبَدُ الأرجوان.. المعتق في غسقٍ باللآلئ..
والزبد الأرجوان.. المزخرف بالليل
والقمر الآن من زهرةِ البرتقال
تغيرتُ مستعجلاً أيها الفرح الضجري
وأصبحَ محشرُ أغربة سطحَ قلبي
ينحنح قبيل مغيب الهلال
عروس السفائن إني انتهيت.. على سطحكِ الذهبي
ورأسي إلى البحر يهفو رائحة اللانهايات
والليل.. تعبان.. يطوِّحها الموجُ ذات اليمينِ وذات الشمالِ
«ت»
احتضنته في غربته وبنهم غريب وشراهة لا تصدق، المؤسسة العلمية في البلد الذي أبتعث إليه، وكان مخلصاً للعلم والمعرفة، وجد المعامل والمختبرات والأدوات العلمية والمراكز البحثية الدقيقة، فتسمر فيها، أخلص قلبه للعلم والمعرفة وجديد النظريات والكشوف والاختبارات والأبحاث، جرى كل شيء في دمه، آناء الليل وأطراف النهار يقضيها بين أرفف المكتبات وطاولات المختبر العلمي الكبير والأجهزة والحواسيب الضخمة والدقيقة، ظل مسهداً بالعلم، مشقواً مستهاماً بالمعرفة، ينكفئ نائماً حتى يوقظ صباحاً على مرجع ضخم أوكتاب نادر وهو جالس في مكتبة أوعلى مقعد في رصيف أوعندركن مقهى أوزاوية أوحديقة عامة أو داخل القاعات الباردة الخفيضة الضوء..
وترى الشمس الشتائية إذا طلعت تزاور عنه في كل حين، وهو في تحليقه بعيداً بعيداً في عالم تذوق لذاذاته وطعومه الحبيبة إلى نفسه، أرخى عينيه في رغبة إلى حضن ما هو فيه، حاصداً جوائز علمية وإشادات وشهادات، كل واحدة تفتح له باباً جديداً في محاريب البحث العلمي، وهو يطمئن نفسه أن العلم والمعرفة بحر كلما غرفت منه زاد … تتوالد الأبعاد من أبعادِ، كما يقول نزار قباني..
«ث»
منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، لم يفارق ما هو فيه في موجدة صوفية عميقة، أشبه ما تكون بحالة جذب روحي لا مثيل لها ولا غرار، لا حد لها ولا قرار …
بكى طائر العمر فوق رأسه فلم ينتبه للشيب الذي غزا مفرقيه، ونبتت شعرات بيضاوات على شاربه الكث وذقنه الخشن الذي ينسى حلاقته أياماً وليالي …!
ناحت حمائم السنوات فوق أهداب غيابه الطويل، فلم يلتفت لها، تسربت الأيام من بين يديه وهو غافل عنها، أسكرته خمر التعلم واللانهايات السرمد، فلم يشعر بما رسمته بفرشاتها الرقيقة الخادعة، على كل شيء فيه، انطفأ الشوق في عينيه للأهل والأحباب والصحبة والرفقة والتراب والشمس الحارقة في براري السافنا الفقيرة حيث عاش وأشجار الحراز والجميز والهجليج والخروب والسيال…
نامت على شفتيه الذابلتين أحاديث المساء المائسة وحكايات المقيل، وحداء الليل وغناء الذراري والعذارى والحرائر بين أهله ووطنه، وفقد حتى النطق بعبارات كانت محببة له في طفولته الصاخبة وصباه الغض، وفقد القدرة على تحسس تلك الزوايا في قلبه المترع حينئذ بالشوق والحنين وثمر السمر وثمار السمار..
نسي حتى كلمات محمود درويش التي كان يحب أشعاره وقد كتبها ذات يوم صائف في بلده لمحبوبته في بلدته الصغيرة:
يطير الحمام
يحطّ الحمام
– أعدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبّك حتى التعب…
صباحك فاكهةٌ للأغاني
وهذا المساء ذهب
ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه في الرخام
وأشبه نفسي حين أعلّق نفسي
على عنقٍ لا تعانق غير الغمام
وأنت الهواء الذي يتعرّى أمامي كدمع العنب
وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ
حين اغترب
وإني أحبّك، أنت بداية روحي، وأنت الختام
يطير الحمام
يحطّ الحمام .
«ج»
مرت الليالي سراعاً كما تمر السحب، ومضت الأيام عجلى كما عبور الشهب، لم يعد أبداً، عقود وسنوات قضاها كمتبتل متعبد راهب، في محرابه الخاص، في عالم أنساه الأهل والولد، ولم يعد قادراً حتى على مخاطبة نفسه ولومها ومساءلتها لما فعل ذلك وكيف… يهرب من السؤال وإليه، يدور حول حلقة دائرية يتوه في حلقتها كدرويش متعلق في قدمي أحلامه الحائرة، نال أعلى الشهادات العلمية، لكن .. غيبته السنوات عن وطنه وسحقت الغربة ما في قلبه من حرارة ولفح، وتحول الجليد إلى أغوار نفسه وبراري روحه النقية التي أتى بها بلاد الصقيع قبل ثلاثين سنة لم يعد فيها قط إلى تراب الوطن ولم يحن إلى خبز أمه وحناء زوجته وحنانها وبراءة الأبناء الذين لم يروه قط منذ فارقهم …!!!
تراه عند تلك الأرصفة التي يغطيها الجليد وتتقارب مع رأسه الذي اشتعل شيبا وغطاه غبار العمر وعلته رغوة الحياة البيضاء، يمشي مخذول الخاطر وكسيره، يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً، كعاشق خط سطراً في الهوى ومحا ..!!
لا تحدثه نفسه بالرجوع والإياب، إلا وقفز كالملدوغ والملسوع، وجرت دمعة حرى على وجهه… لا ألق للمكان ولا برق للزمان.. لا تعوض السنوات ما فات ولا يعيد العمر كرة أخرى.. ولا موعد وميقات للرجوع.. ولا زهرة في الطريق تعطي نفحها في الإياب..
كتب ذات مرة في لجة غربته المجيدة على كثيب رمل، وعندما جاء الشتاء رسم بعكازته على كوم ثلج …ما يلي:
و استفقنا ذات فجر
و انتظرنا الطائر المحبوب و اللحن الرخيما
و ترقّبنا طويلاً دون جدوى
طائر الفردوس قد مدّ إلى الغيب جناحا
و النشيد الساحر المسحور.. راحا..
صار لوعه
صار ذكرى.. صار نجوى
و صداه حسرةً حرّى.. و دمعة
***
نحن من بعدك شوق ليس يهدا
و عيونٌ سُهّدٌ ترنو و تندى
و نداءٌ حرق الأفقَ ابتهالاتِ و وجْدا
عُدْ لنا يا طيرنا المحبوب فالآفاق غضبى مدلهمّة
عد لنا سكراً و سلواناً و رحمة
عد لنا وجهاً و صوتاً
لا تقل: آتي غداً
إنا غداً.. أشباح موتى !!
رفرف العمر براياته وأطلق صافرته … وهو لم يعد بعد ، غارق في زمانه ومكانه … وأعمارنا مثل البرق تضيء بقوة ثم تختفي وراء السحب المرتفعة ..!! ولربما …!
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة