السودان وتشاد.. اختراق في طور (الأماني)
ألقى سوء العلاقات السياسية بين الجارين اللدودين السودان وتشاد في أغسطس من العام الماضي بظلاله على العلاقات الرياضية، وأجبر الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) على اتخاذ قرار بإقامة مباراتي منتخبي البلدين في التصفيات المؤهلة لمونديال جنوب إفريقيا 2010م بالعاصمة المصرية القاهرة بعد رفض المنتخب التشادي المجئ إلى الخرطوم للعب مباراته أمام السودان، بسبب ذلك التوتر.
وألقى التوتر بظلاله على مساحات ثقافية وإجتماعية أخرى أيضاً، فقد اتخذت تشاد من قبل قراراً بمنع بث الأغاني السودانية، ورغم أن البلدين كانا على درجة من التوافق، إلا أن التوترات تزايدت من وقت لآخر حتى كادت أن تنسف ما بقي من حق الجوار، وبلغت ذروتها إبان الهجوم الإنتحاري لحركة العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم على أم درمان في مايو 2008م، ومذ ذاك وحتى الأمس باءت كثير من الجهود لتقريب الشقة بين البلدين بالفشل، واعتبر مراقبون أن المقاطعة الأخيرة عقب هجوم خليل رغم ما تلاه من جهود نقطة فارقة في العلاقة، بل ونقطة اللاعودة نظراً لعمق الخلاف الأخير.
وبالمقابل فإن كثيراً من الملفات القائمة تتطلب إعادة التقارب بين البلدين بل وتطبيع العلاقات لما يجمعهما من مصالح وتداخل يصعب فصله، وأحدى القضايا المهمة للطرفين حل أزمة دارفور التي يزيد تعقيدها مشاكلهما وتعقدها خلافاتهما، و يمثل حلها أحد أهم ركائز الإستقرار عند كليهما، وعطفاً على هذه القضية فإن سوء العلاقات ينذر بطول أمد الأزمة الدارفورية التي تطيل من جانبها أمد القلق الأمني في الإقليم ككل، وقد كان للهجمات التي قام بها متمردون على شرق تشاد اليد الطولى في افشال الإتفاق الذي وقع مايو الماضي في الدوحة بين البلدين.
الآن وبعد واحدة من الفترات الطويلة للقطيعة برز اتجاه كبير لإعادة العلاقات إلى سابق عهدها، فقد أعربت الخرطوم في اكثر من مناسبة عن أهمية التطبيع مع تشاد لحل مشكلة دارفور، وأبدت استعداداً للوصول إلى تسوية متى ما كان ذلك ممكناً، ونشطت الخرطوم باتجاه حلحلة الأزمة وانطلق أمس د. غازي صلاح الدين مستشار رئيس الجمهورية، مسؤول ملف دارفور إلى انجمينا للقاء الرئيس التشادي إدريس ديبي، يرافقه وفد كبير، ونقل د. غازي لدى لقائه ديبي أمس رسالة شفهية من الرئيس عمر البشير أكد فيها حرص السودان على إقامة علاقات إخاء وتعاون بنّاء بين البلدين، وتناول اللقاء سبل تطبيع العلاقات وتجاوز التوترات، وأوضح د. غازي عقب لقائه ديبي أنه نقل له رغبة السودان الجادة في تطبيع علاقاته مع تشاد وتجاوز أية توترات في العلاقات، وقال إن ديبي استحسن المبادرة وعبر عن ذات الأماني والقناعات بضرورة الحفاظ على علاقات متينة وتجاوز المرارات التي حدثت في الماضي القريب نتيجة لأحداث معينة. وأوضح أن الجانبين اتفقا على ضرورة معالجة المشكلات في بداياتها بجدية وإرادة صادقة، وأشار إلى أنه ووفده سيناقشان مع الجانب التشادي إمكانية زيارة مسؤولين تشاديين رفيعي المستوي للسودان كرد على زيارته لانجمينا لبحث المسائل التي تتعلق بدعم وتحسين العلاقات الثنائية، وسيختتم د. غازي زيارته اليوم.
واعتبر مراقبون الأمر خطوة في الإتجاه السليم لوقف التوترات، وكانت انجمينا أكدت من قبل ترحيبها واستعدادها للتطبيع، وكانت لموسى فكي محمد وزير العلاقات الخارجية التشادي لقاءات مع الخارجية السودانية خلال مؤتمر القمة اللاتينية الأفريقية بفنزويلا، ورشحت أنباء عن حضوره إلى الخرطوم قريباً.
إلا أن مراقبين يخشون أن تقود مباحثات لاحقة إلى اتفاقات لا يتم الركون إليها، فالطرفان يحملان إرثاً مقداره ستة إتفاقات ماضية، وهو ما يخشى تكراره.
وبرأي مراقبين فإن هذه الدعوات جاءت الآن ربما بايعاز من الدول الكبرى ذات التأثير على تشاد، فيما يريد السودان تسوية الأرضية لحل مشكلة دارفور، ويرون ان الدعوة استباق لمفاوضات الدوحة المقبلة والتي لا يمكن ان تنجح إلا بمشاركة الفصائل الرئيسية في دارفور، ويرى د. حسن حاج علي أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم أن التطبيع مع تشاد لا بد ان يحدث قبل المفاوضات، ويضيف أن كل الجهود المبذولة الآن بما فيها مساعي المبعوث الأمريكي سكوت غرايشون، والتحرك في موسكو والترتيبات واللقاءات والندوات تصب في اتجاه مفاوضات الدوحة.
ويشترط مراقبون أن يتم الحديث مع الدول ذات التأثير على تشاد، وتحديداً فرنسا، فإذا كانت تشاد صادقة في قبول التطبيع فإنها لا بد رغبة فرنسا وبالتالي هي رغبة أمريكية، ويشترط د. حسن مكي مدير جامعة أفريقيا العالمية والمحلل السياسي المعروف، أن تتم تصفية المعارضة السودانية في تشاد ليتم التطبيع لأنها متجذرة وتخلق إشكالات كبيرة، ويضيف د. مكي إن العلاقات الرسمية يمكن ان تطبع وتعود بعض المظاهر مثل التجارة الحدودية وغيرها، لكنه سيكون حلاً جزئياً لا كلياً لأن الأمور خارج سيطرة الحكومة التشادية والمعارضة موجودة ولا تحتاج إلى إذن للتحرك.
وفي سياق الإشتراطات المناسبة لحدوث تطبيع في العلاقات يقول د. حسن حاج علي إن تجارب سابقة وصلت حد الإتفاق لكنها لم تنجح، ويرى أن الوسيلة الوحيدة لنجاح محاولة التطبيع تتوقف على قوة الوسيط، ويقول إنه إذا كان من الدول الأوروبية خاصة إذا كانت فرنسا فسيكون هنالك إحتمال للنجاح، وما عدا ذلك لا أعتقد أنه سينجح وسيكون اتفاقاً مؤقتاً وتعود الأزمات مرة ثانية.
وقراءة ماضي وتجارب الجارين تجعل التفاؤل بمستقبل هادئ وعلاقات منسابة أمراً عصياً، اذ يضيف مراقبون إلى الإشتراطات إزالة أسباب المشكلة وإبعاد تهمة دعم المعارضة في كل طرف لدفع شبح التوجس، ويقول العميد أمن (م) حسن بيومي مدير الأمن الخارجي السابق وقنصل السودان في تشاد سابقاً إن هنالك مسائل ما زالت قائمة ولا بد من الوصول إلى صيغة جديدة لمصلحة البلدين، ويضيف إن على كل طرف أن يساعد الآخر على حل مشكلته مع المعارضة المسلحة ويلتزم بذلك، ويستطرد بأنه لا بد من إزالة كل الرواسب بين الطرفين أولاً. ويرى بيومي أنه كان يجب أن يكون العمل على تطبيع العلاقات سرياً حسب تجاربهم السابقة، ويقول إنه كان يجب أن يتحرك مسئولوا الأمن الخارجي في كل ويتم تنسيق الأمر ومن ثم تأتي زيارات الدبلوماسيين لاحقاً، لأن التحرك الدبلوماسي العلني قد يدفع المعارضة المسلحة في الجانبين لنسف أي اتفاق يتخطاهما، ويفشلان المهمة كما حدث في اتفاقات سابقة.
وكيفما كان الأمر فإن التحركات الأخيرة كافة تنبئ بأن خطوة مهمة ستتخذ حيال ملف العلاقات السودانية التشادية التي تؤثر اول ما تؤثر على الوضع في دارفور ومن ثم على المنطقة ككل، وربما تقود إلى إطفاء واحدة من أكثر بؤر التوتر إشغالاً للرأي العام الداخلي والعالمي.
عوض جاد السيد :الراي العام