تحقيقات وتقارير

النزول إلى الشارع .. حنين للماضي

غضبت الدكتورة مريم الصادق المهدي عندما وجهت لها في وقت سابق سؤالاً اشتمت فيه رائحة شبيهة بالتبخيس لمذكرات التفاهم التي درج حزب الأمة على توقيعها مؤخراً بشهية مفتوحة مع القوى السياسية الحية سواء كانت في الحكم او المعارضة المسلحة، ثم قالت بالغضب ذاته، حديثكم عن عدم جدوى الفعل المدني سيحفز الناس للبديل المجرب «رفع السلاح» وهو تطور غير إيجابي، أو سيحفزهم على الأقل للنزول إلى الشارع وفي هذه الحالة فإن «اخوانا ناس المؤتمر الوطني حيضربوا الناس والبلد كلها حتدخل في حمامات دماء».
غير ان الحديث عن النزول الى الشارع الذي جاء ضمن مقترحات الأحزاب القائلة بعدم شرعية الحكومة في التاسع من يوليو الماضي، كاد أن يختفي من أدبيات السياسة السودانية في مرحلة ما بعد نيفاشا، حيث لم تشهد الفترة من 2005م وحتى الآن سوى مظاهرة او اثنتين كانت بسبب الزيادات على السكر والوقود.
لكن ياسر عرمان نائب الأمين العام للحركة الشعبية هدد مطلع الاسبوع الجاري بالنزول الى الشارع، وطالب وهو يضع قبعة رئيس كتلة نواب الحركة الشعبية على رأسه، بالغاء جميع القوانين المقيدة للحريات وإجازة قانوني الاستفتاء والمشورة الشعبية قبل انهاء الدورة الحالية الى جانب اشراك الحركة في وضع جدول اعمال المجلس.
ولم ينزل عرمان في محطة المطالبة، بل هدد في حال رفض مطالبهم في الحركة، بالنزول الى الشارع وتحريكه بتنظيم مظاهرات في كافة مدن الجنوب والنيل الأزرق وجبال النوبة.
من جانبه سخر المؤتمر الوطني من حديث عرمان، ووصف د. مندور المهدي أمين العلاقات السياسية بالمؤتمر الوطني تلك التصريحات وإن شئت الدقة – التهديدات – باللجوء الى الشارع في حال عدم تغيير القوانين المقيدة للحريات، بأنها تصريحات طفيلية حسب بعض الصحف، وطفولية حسب أخرى.
فبرأي مندور الذي حمل الحركة المسؤولية كاملة في عدم الوصول الى اتفاق حول عدد من القضايا، إن اجازة القوانين المقيدة للحريات ليست مسؤولية الوطني وحده، وإنما هي مسؤولية مشتركة بين حزبه والقوى السياسية كافة.
والناظر الى تصريحات عرمان وتلميحاته، يجد انها تعبر الى حد كبير عن الحركة رغم محاولات التقليل المستمر من هذه التصريحات والإشارة من قبل خصومه الى انها معبرة عن أحد تيارات الحركة أو في أحسن الاحوال معبرة عن التيار اليساري المتشدد داخلها بزعامة باقان اموم، ويليه في رئاسة هذا التيار التشددي كما في الأمانة العامة، ياسر عرمان الذي لم تتراجع الحركة يوماً عن حديث ادلى به.
وبالتالي، فإن حديث عرمان، ينظر اليه البعض بجدية، ويعتقد ان وضعه في حيز التنفيذ هو مسألة وقت لا أكثر اذا ما فشل البرلمان في تعديل القوانين المقيدة للحريات، لكن في المقابل، فإن هناك من يرى في حديثه محض محاولة معطوبة للتهويش.
وفي السياق، وصف د. عبد الرحمن الخليفة احد ابرز مفاوضي نيفاشا من جانب المؤتمر الوطني، تهديد عرمان باللجوء الى الشارع، بأنه حنين قديم الى شغب طلابي، وقال لـ (الرأى العام): إن هذه اللهجة الغاضبة من ياسر وتلويحه بالنزول الى الشارع، لا يسندها دستور او غيره، ومن الافضل للحركة التي استطاعت ان تصل بالحوار مع الوطني وقف الحرب وتوقيع اتفاقية السلام، ان تسلك ذات النهج الحواري بعيداً عن لغة التهديد.
وكما هو معلوم، فإن للحركة تمثيلها الرفيع في رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان، وربما شكلت هذه المنابر الى جانب اللجان السياسية بين الشريكين سانحة جديرة بالإغتنام قبل اللجوء الى وضع التهديد بالنزول للشارع في حيز التنفيذ.
ويذهب محللون الى ان الاسلوب الهتافي بات ذا جدوى مع الحكومة، حتى ان أحدهم شبهها ذات مرة «بأم التيمان التي ترضع الطفل الذي يبكي وتترك الطفل الآخر الصامت».. وعلى خلفية ذلك، فربما كانت هناك جدوى في النزول الى الشارع إن صح شبه الحكومة بتلك الام غير العادلة.
لكن هناك من يرى ان قضية القوانين المقيدة للحريات، وقانوني الاستفتاء والمشورة الشعبية لا يمكن حلها في الهتاف، ولا يمر عبر الشارع، وانما عبر قنوات الحوار بين الشريكين التي كثيراً ما افضت الى تفاهمات، ومثلما افضت منذ البداية الى التوقيع على اتفاق السلام، فإن الوصول الى ما هو اهون منه يبدو امراً ممكناً رغم الحشائش السياسية التي كادت ان تقفل تلك القنوات.
ويشير البعض، الى ان النزول الى الشارع ومهما كانت عدالة القضية التي تقود الى ذلك، سيفضي على الارجح الى سيناريوهات فوضوية، فإذا استثينا النزول الجماهيري التلقائي الى الشارع لمساندة الرئيس البشير ضد محاولات الجنائية للانتقاص من هيبة الدولة، والمظاهرات التي يمسك الوطني بخيوطها في الخفاء وبالتالي تكون مرضي عنها، فان غير ذلك من المظاهرات سيكون مصيرها لا محالة التصدي .
حدث هذا بالفعل عندما دعت الاحزاب مؤيديها للنزول الى الشارع ابان زيادات السكر والوقود قبل نحو ثلاثة اعوام تقريباً، وتمكنت الحكومة من التصدي حتى إلى النوايا، فعندما كانت القوى المعارضة تنوي النزول الى الشارع لتقول ان الحكومة غير شرعية، حينها قال د. نافع علي نافع إن الحديث عن عدم شرعية الحكومة خط أحمر، وهو الأمر الذي شكل رسالة واضحة للمعارضين بإن السلطات ستتعامل مع اي خروج للشارع بشتى الوسائل، فتراجعوا عن النزول الى الشارع.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ما زال النزول الى الشارع يعتبر سلاحاً ذا فاعلية كما كان في مراحل تاريخية سابقة حقق فيها النزول إلى الشارع نتائج مبهرة قلبت الكثير من الموازين السياسية بالبلاد، ام ان العطب اصابه كذلك واصبح مجرد سلاح للتهديد لا للاستخدام؟ وهل تستطيع الحركة ان تستخدم هذا السلاح؟.
والإجابة التي رفد بها المحلل السياسي د. ابراهيم ميرغني «الرأى العام»، هي ان النزول الى الشارع فقد فاعليته بالنسبة للقوى المعارضة التي تمتلك جماهيرية كبيرة ولكنها غير منظمة، اما بالنسبة للحركة الشعبية فإن دوره لم ينته بعد، فالحركة -كما الوطني- لها كوادر منظمة تستطيع ان تخرجهم الى الشارع في الجنوب وجبال النوبة والنيل الازرق وحتى في الخرطوم، فهي ليست بضعف المعارضة، لأنها تستطيع ان تحمي كوادرها من بطش الاجهزة المختصة، ففي حال ضربهم، يمكن ان تلجأ الحركة الشعبية إلى سلاح أمضى ومن غير المستبعد أن يكون فض الشراكة نفسها.
ومهما يكن من امر، فإن التعبير السلمي سواء أكان ذلك بالنزول الى الشارع او غيره، يعد من الحقوق المكفولة بموجب الدستور الانتقالي، وبموجب كافة القوانين، ولكن ذات القوانين تحض على اخطار السلطات قبل النزول الى الشارع، والمحافظة على الارواح والممتلكات العامة إلى جانب التعبير بصورة حضارية عن قضيتهم.. لكن الناظر الى الواقع السياسي المحتقن هذه الأيام بشئ من الموضوعية، يجد ان الحركة غير قادرة على النزول الى الشارع والسيطرة عليه في الآن ذاته من محاولات عبث المندسين والمتفلتين داخلها ممن يتحينون هكذا فرص.. كما ان الوطني – ورغم مشروعه الحضاري – لا يبدو مستعداً حتى الآن على الأقل، للتعاطي الإيجابي مع اي نزول إلى الشارع مهما كانت درجة حضارية ذلك النزول.

فتح الرحمن شبارقة :الراي العام