(وصية) محمدية
قبيل سنوات وأنا بالعزيزة (الرأي العام)، قمت بإجراء تحقيق صحفي حول أغنيات الحقيبة. ولأنني كنت أبحث عن توثيق حقيقي لتلك الأغنيات، لذلك كان لا بد لي من اصطحاب رأي شيخ الموسيقيين السودانيين محمدية، فاتصلت به وسألته عن رأيه في الاستهلاك الكبير الذي تتعرض له أغنيات الحقيبة، وهل سنصحو ذات صباح ونجد تلك الأغنيات قد انقرضت بسبب ذلك الاستهلاك؟.. فرد علي بعبارة لا يزال صداها في أذنيَّ وهي: (أغنيات الحقيبة هي جزء من التاريخ السوداني، لذلك يجب المحافظة عليها والاعتناء بها)، وزاد: (يمكننا أن نتخذ أبا الهول في مصر أنموذجاً لتدعيم حديثنا هذا، فهو تاريخ أيضاً لمصر، وأحب أن أوضح لك معلومة مهمة وهي أن أبو الهول تعرض للكثير من عوامل الطبيعة على مدار السنوات الطويلة التي ظل شاهداً عليها، لذلك كان من الطبيعي أن يتأثر بتلك العوامل، فمثلاً يمكنك ملاحظة أن أنف أبي الهول مكسور، فهل سألت نفسك يوماً لماذا لم يقم المصريون بمعالجة الأمر أو تصليح ذلك التلف؟.. والإجابة ببساطة هي أن المصريين يعرفون قيمة التاريخ، لذلك لم يلجأوا للتدخل على الإطلاق في الأمر، لأنهم يعتقدون أن هذا الأمر يعد تشويهاً للتاريخ، ونحن كذلك ينبغي أن نحافظ على أغنيات الحقيبة من التشويه)، وقبل أن يختتم حديثه قال: (نحن لسنا ضد ترديد الفنانين الشباب لأغنيات الحقيبة، ولكننا ضد تشويه التاريخ).
لا أدري لماذا تذكرت ذلك الحديث الذي دار بيني والراحل محمدية وأنا أشاهد جثمانه ظهر أمس يستقر بقلب مقابر حمد النيل، ولا أدري لماذا أحسست برغبة عارمة في أن أحكي لكل من حولي عن ذلك الحديث الذي دار بيني والراحل، على الأقل لأن حديثه ذاك يمكن أن يقع في مدار (الوصية) وأي وصية هي!.
رحيل محمدية بلا شك، هو فقد وجرح جديد في جسد الأغنية السودانية، ورحيله ربما ترك فراغاً كبيراً في الوسط الفني نحتاج لسنوات لتعويضه، ليس لأنه عازف ماهر وحسب، بل لأنه فنان حقيقي ومعاصر، شهد على الكثير من حقب الفن والفنانين، ولأنه إنسان شفيف ونظيف الدواخل و(صاحب ابتسامة) ربما لا تحتاج مني لتعليق.
نعم.. ستعاني الساحة الفنية من جديد برحيل عرابها الموسيقار محمدية، وسنحتاج لفترة طويلة حتى يظهر محمدية جديد، فنحن لسنا في زمن المعجزات ولا في زمن الأمنيات، رحم الله ذلك الرجل (الودود الابتسامة) وصاحب المحبة الكبيرة في قلوب كل السودانيين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
جدعة:
كثيرون لم يصدقوا خبر رحيل محمدية بالأمس، وكان البعض يتمنون أن يكون الخبر مجرد شائعة مثله مثل الشائعات التي انتشرت قبيل فترة برحيله، ولكن الإثبات جاء أمس ممهوراً بحزن عاصف، وبوجع إضافي، على الأقل لأن (الموت هو الحقيقة الوحيدة والمؤكدة).
شربكة أخيرة:
بنفس البساطة والهمس الحنون.. ترحل يا حبيبي من باب الحياة لي باب المنون.
(محجوب شريف)
[/JUSTIFY]
الشربكا يحلها – احمد دندش
صحيفة السوداني