تحقيقات وتقارير

تقتل سلفاكير للمرة الخامسة.. من يوقف الشائعات السياسية؟

سرت شائعة خلال الأسبوع الماضي عن مقتل النائب الأول لرئيس الجمهورية رئيس حكومة الجنوب الفريق أول سلفا كير ميارديت اضطرت على إثرها قوات مدججة بالسلاح من الجيش الشعبي لإخلاء مدينة بانتيو خشية وقوع إنفلاتات بين قبيلتي الدينكا والنوير، فيما أغلقت المتاجر بمنطقة السوق الأفرنجي بالخرطوم تجنباً لأي انفلاتات محتملة، وسارع نائب رئيس حكومة الجنوب د. رياك مشار إلى عقد مؤتمر صحفي، اتّهم فيه جهات قال إنها وراء شائعة مقتل النائب الأول وهي عدو للسلام.. وأوقعت تحركات الجيش الشعبي داخل مدينة بانتيو حالة من الرعب والهلع وسط المدينة احتمى خلالها المواطنين بالغابات المجاورة للمنطقة.. فما هي آثار الشائعة المباشرة وغير المباشرة على مجتمعنا ؟ومن يطلق الشائعات وما الغرض من إطلاقها؟ ولماذا تفشّت الشائعة السياسية في المجتمع السوداني أكثر من غيرها ؟وما هو السبيل إلى محاربتها ؟طرحنا هذه التساؤلات وغيرها على عدد من المختصين الاجتماعيين والنفسانيين وأساتذة العلوم السياسية فكانت هذه الحصيلة: عقب مقتل الزعيم الراحل جون قرنق وما صاحب ذلك من أحداث تخريب وحرق وقتل راح ضحيتها الكثيرون أطلقت شائعات مفادها مقتل فاولينو ماتيب لأكثر من مرة.. كان الغرض منها المزيد من البلبلة داخل المجتمع.. وبعدها أيضاً انتشرت شائعة بسرعة النار في الهشيم تفيد بمقتل النائب الأول لرئيس الجمهورية سلفا كير ميارديت لخمس مرات متتالية أحدثت رعباً وهلعاً شديدين وسط المواطنين..
الشائعة وتاريخها
تُعرف الإشاعة بأنها: “رواية مصطنعة عن فرد، أو أفراد، أو مسؤولين يتم تداولها شفهياً بأية وسيلة متعارف عليها، دون الرمز لمصدرها، أو ما يدل على صحتها، ومعظم الشائعات ذات دوافع نفسية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، وتتعرض أثناء التداول للتحريف، والزيادة، والنقصان، وتميل غالباً للزيادة ”
متى وجدت الشائعة وكيف تطورت ؟ سألنا دكتور مختار بيومي أستاذ التاريخ فقال” يؤكد التاريخ أن الشائعة وجدت على الأرض مع وجود الإنسان “، وقد تطورت وترعرعت مع تطور الحضارات القديمة والحديثة، واستخدمها المصريون والصينيون، و اليونان، في حروبهم قبل الميلاد بآلاف السنين للتأثير على الروح المعنوية للعدو، وفي بداية العصر الإسلامي كانت حادثة الإفك التي تولى كبرها المنافقون، وكادت تؤثر تأثيراً كبيراً على الروح المعنوية لبعض المسلمين ؛ حتى أنزل الله قرآناً يبين براءة عائشة رضي الله عنها، ويكذّب من جاء بالإفك.. وأيضاً إشاعة مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، وما كان لها من أثر في صفوف المقاتلين المسلمين، وقصة نعيم بن مسعود رضي الله عنه في غزوة الخندق لتفكيك قوى الأحزاب لا تخفى على أحد”
أغراضها وأنواعها
الشائعات لا يمكن حصرها، ويحكمها الهدف، أو الغرض من الإشاعة ؛ ولكنّها لا تخلو من أن يكون غرضها الخوف و إثارة القلق والرعب في نفوس السكان خاصة أثناء الكوارث والحروب. كما أن هنالك إشاعة الأمل أو التمني.. والتي يتمنى مروجوها أن تكون حقيقة واقعة ويتناول هذا النوع قضايا مختلفة في مقدمتها الحصول على منافع معنوية، أو اجتماعية، أو اقتصادية. وأيضاً هنالك إشاعة الحقد.. وهي أخطر أنواع الإشاعات؛ لأنها تسعى إلى ضرب الوحدة الوطنية بإثارة البلبلة بين الطوائف الدينية، والمذهبية، والقومية، وصولاً إلى بث روح الفرقة، وتحطيم المعنويات.. وتكثر الشائعات في غير الظروف العادية كظروف الحروب مثلاً؛ بقصد غرس روح النصر في الجيوش الصديقة، أو غرس روح الهزيمة في الأعداء، أو رفع أسعار السلع في الأسواق
أسباب انتشارها
ما هي أسباب انتشار الشائعات؟سألنا الدكتور محمد الجاك أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية العلوم التنموية والاجتماعية بجامعة الخرطوم فأجاب قائلاً “هناك أسباب لانتشار الشائعات منها: الشعور بالقلق، والخوف، والكراهية لشخص أو أشخاص معينين لهم نفوذهم، ولأسباب شخصية معينة، ثم يأتي بعد ذلك الفراغ، والأذن الصاغية. بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني، والجهل، والرغبة في تضخيم الأمور الصغيرة إلى أشياء كبيرة لأسباب نفسية، والاستعداد النفسي، والرغبة في إثارة مشاكل اجتماعية تهم أفراد المجتمع بأكمله.. والإشاعة وباء خطير إذا دبّ في مجتمع من المجتمعات أشاع فيه جواً من القلق والخوف والتوتر والاضطراب، وعدم الاستقرار، وانهيار الروح المعنوية، وإشعال نار العداء بين عباد الله، والوقوع في أعراضهم مما يكون له الأثر السيئ على الأمن والاستقرار، وكثيراً ما ينتج عن ذلك الفوضى وتعطيل مصالح الدول والمجتمعات إذا لم تستطع الحكومة مواجهتها وتفنيدها وإطلاع مواطنيها على الحقائق التي تحاول الشائعات طمسها وتزويرها”..
لها مبرراتها
وعن بعض دوافع الإشاعة يقول دكتور محمد الجاك أحمد “هي ظاهرة في الكثير من المجتمعات.. هي لا تعكس أمرا فعلياً ولكن يكون المقصد منها في بعض الأحيان تهيأت المواطنين إلى أمر سلبي أو إيجابي هذا هو الإطار النظري أو التحليلي للإشاعة وهو إثارة واقع لا يكون موجوداً.. لذلك نجد الكثير من المنظمات الإرهابية يطلقون الشائعات حول موضوع معين فيكون ذلك مبرراً لارتكاب الفعل أو الجريمة من بعد ذلك.. الآن أصبحت الإشاعة مبرر للكثير من الأفعال في المجتمع السوداني.. متى ما أثيرت إشاعة لا يذهب الناس إلى ماهية الإشاعة نفسها بل يذهبون إلى أسباب تلك الإشاعة والغرض من إطلاقها.. فيبدأ من بعد ذلك التأويل بأن حدث ما سيحدث.. فإن كانت هنالك إشاعة سياسية مثلاً فهذا سيعني بالضرورة أن قراراً سياسياً سيحدث أو خطب ما لمصلحة جهة ما.. وفي كثير من الأحيان تكون الإشاعة مبرراً لقرار سياسي سيحدث لاحقاً لا يمكن اتخاذه من دون تمهيد.. ولكن دوماً نجد التركيز على الإشاعات السياسية بسبب أن لها مردود اقتصادي واجتماعي.. أو ربما أنهم يتوقعون تغييراً وبالتالي يبدؤون تأويل الإشاعة على حسب رغباتهم ”

مرض نفسي
للإشاعة فوائد إيجابية وسلبية فما هي خطوات إطلاقها ؟وهل يمكن أن تشخص مروج الإشاعة بأنه مريض نفسي؟سألنا الدكتور أسامة الجيلي مصطفى الاختصاصي النفسي فقال”متى ما انتشرت ظاهرة الإشاعة في مجتمع ما فهي تنم عن أن هنالك خللاً ما أو ضعفاً ما في هذا المجتمع.. وفي السنوات الأخيرة أصبح المجتمع السوداني واحداً من هذه المجتمعات التي لديها قابلية لتصديق الإشاعة.. وهذا يعني وجود خلل ما في تركيبة المجتمع السوداني وازدياد عدد مروجي الإشاعة.. وهذا في حد ذاته مؤشر خطير.. ودوماً ما تستخدم الإشاعة لأهداف غير سوية وغير إنسانية وغير وطنية في حين أنها من الممكن أن تستخدم في نواحي إيجابية من أجل درء مشكلة ما أو ظاهرة معينة.. الإشاعة لديها خطوات وأصبحت علماً يدرس عن طريق الاستخبارات وعلم النفس العسكري من ناحية الإشاعة ومدلولاتها وأهميتها وكيف يمكن الاستفادة منها على حسب طبيعة الموقف والحدث وطبيعة العدو وبالتالي الشخص المتمرس في إطلاق الإشاعات تكون له ميزات معينة ومواصفات حتى على مستوى الأحياء الصغيرة تجد فلاناً من البشر “بتاع كلامات” يسمع الكلام ويزيده ويجمّله ثم يطلقه ليبحث عن آثاره بعد ذلك.. وهذا مرض نفسي إن كان ديدناً للشخص دوماً يعيش على الأوهام وعدم المصداقية وهي أشياء في مجملها تبنى عليها الإشاعة فتكون نوعاً من المرض وهي جزء من اضطراب الشخصية وهي تقود في النهاية إلى مرض نفسي عضال.
ترابط اجتماعي
وما هي طرق معالجة ومحاربة الإشاعة؟ يواصل الدكتور أسامة الجيلي مصطفى الاختصاصي النفسي حديثه بقوله”لا نقول إنها من الصعوبة بمكان.. لكن لا بد من توفر أسس وقواعد نرجع إلى القرآن الكريم الذي يقول” أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف “فإذا وضعت الجهات المسئولة الأمن همها الأساسي بحيث يكون هنالك نوع من الترابط الديني والاجتماعي والقيمي مع الآخر أياً كان نوعه فبالتالي يكون عدم القبول المفاجئ أو التلقائي للخبر وبمقاييس التحري والتقصي ومن ثم تأتي مرحلة التقبل.. ولكن عندما يكون هنالك عدم ترابط وعدم احترام وكوامن في الدواخل فالمجتمع من السهل أن تتخلله مثل هذه الأشياء.. لذلك هذه الكوامن تحتاج الى غسيل حتى ننزع هذه النزعات الداخلية السلبية من الناس.. يجب أن تجلس الجهات المختلفة وأن تتضافر الجهود مع بعضها البعض لإقامة محاضرات توجيهية في الأندية وفي الأحياء وفي التجمعات.. كما أن الإعلام يقع عليه العبء الأكبر في كيفية إزالة مثل هذه المفاهيم عند الناس.. فهنالك عدم فاعلية قومية للوظيفة الأساسية للإعلام فهو وسيلة لتغيير مفاهيم واتجاهات الناس إلى الأفضل لأنها هي المعنية بتغيير تركيبة المجتمع وهي تصل إلى أقاصي المدن والقرى بذات الأهداف.. أيضاً المجتمع بكل تنظيماته ومؤسساته المعنية والدولة أيضا لا تعفى لدورها في تسيير كل هذه الجهات والمؤسسات التربوية بمناهجها ومدارسها أيضا معنية بكيفية محاربة هذه الشائعات”
محاربة الفاسق
وما هو رأي رجال الدين في الشائعة وكيف جاءت في القرآن والسنة وكيف الطريق إلى محاربتها؟ سألنا الشيخ أحمد الحاج -أصول دين ودعوة – فأجاب قائلاً”لأن الإشاعة أقوال بين متكلم أو مروج وبين سامع مصدق ومكذب لتلك الأقوال ؛ فقد وصف الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم مبتدع الإشاعة ومروجها بأقبح الأوصاف ؛ فقد وصف بالفاسق في قوله تعالى: ] إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [ (الحجرات: 6)، والكاذب في قوله تعالى: ] إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ [ (النحل: 105)، والمنافق في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” آية المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان “، وحذّر الله سبحانه وتعالى من الكذب وبين العقوبة التي يستحقها الكاذب لكذبه فقال تعالى: ] فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِين [ (آل عمران: 61 )، وقال تعالى: ] وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ [ (الزمر: 60 )، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه المتفق عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً “، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: ” كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ” أما السامع فقد أمره الله سبحانه وتعالى بالتثبت والتأكد مما يسمع، وحذّره من المسارعة في تصديق كل ما يبلغه فيقع في ندامة من أمره، والخطاب عام للمؤمنين قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )
الخلاصة
الشائعات مرض أصاب المجتمع السوداني ودبّ في أوصاله لابد من تضافر الجهود من أجل محاربة الإشاعة ومروجيها حتى لا يتفكك المجتمع السوداني ويقل ترابطه وتصبح عاداته وتقاليده السمحة مجرد سراب بعد أن كانت واقعاً لأجيال سبقت تميّزت بها..

حاتم دينار: الرائد