دعوها فإنها منتنة
> لسنوات طويلة تراود فكرة مخيلتنا، حول الصراع القبلي في دارفور، الذي ينشأ بلا مقدمات، وبدوافع لا ترقى إلى مستوى يجعل من الاحتراب والقتل خياراً يختاره الخصماء، مثل السرقات البسيطة.. نهب ثور أو بعير أو شاة وتيس، أو خلاف شخصي حول امرأة وفتاة متوسطة الجمال أو حول مورد ماء.. ومنشأ الفكرة أن هناك أسباباً تحتاج إلى دراسة متعمقة لمعرفة ما الذي يدفع قبائل دارفور إلى إراقة الدماء وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ونشر الموت الزؤام، والمبالغة في الانتقام، وجعل القتل وسيلة للتشفي وإرضاء الذات الجمعية.
> وأصل الفكرة.. أننا بحاجة إلى دراسة سيوسولوجيا القبيلة ومكوناتها وتراكيبها الثقافية والنفسية ككيان اجتماعي، فالتوترات العنيفة واستسهال قتل الآخر بالبشاعة التي تشهدها صراعات دارفور وبعض أجزاء كردفان حتى بين بطون القبيلة الواحدة، أمر يستحق التوقف عنده ودراسته بعمق ودقة، ومن ثم وضع الترياق والعلاج الشافي منه، وليس هناك دافع أكبر لتطبيق هذه الفكرة، من فشل جميع مؤتمرات الصلح القبلي منذ خمسة أو أربعة عقود في وضع حد للاحترابات القبلية، وقد صارت اليوم أعنف وأكثر دموية ووحشية بفعل انتشار السلاح الحديث الفتاك.
> فدراسة التكوين القبلي بكل أبعاده أمر ضروري للغاية، ففي كتاب الرحالة الألماني جوستاف ناختيغال الذي زار دارفور عام 1874م ووصفه للقبائل وعلاقاتها وصراعاتها، يجد المرء نفسه أمام حقيقة لا يمكن تجاوزها، وهي أن صراعات دارفور الحالية ما هي إلا نسخ متكررة من ذات النزاعات التي شهدها ناختيغال قبل أكثر من مائة وأربعين عاماً، إذ لم يتغير التكوين الديمغرافي ومساكنات القبائل من قديم التاريخ وحديثه، وتكاد الأسباب تتطابق والدوافع تتناسل وتتكاثر وتتكرر كما وصفها الطبيب الألماني الرحالة.
> فإذا كانت القبيلة في دارفور تتحرك بعقلها وعاطفتها الجماعية، ويغلب فيها العام على الخاص، وتتقمصها العصبية والحمية الضيقة والعنصرية المقيتة، ويتوحد وجدانها على ضغينة واحدة، وتنتقم لنفسها من أفعال الأفراد والآحاد، دون مراعاة لوازع من دين أو أعراف أو فضيلة الجوار وعلاقة الدم، فإن ذلك تعبير وتجسيد دقيق لروح التعصب والتشنج والموالاة للعرق والحسب والنسب والدم التي تعلو على كل رابط آخر وكل قيمة إنسانية أخرى، وهو ما يتوجب معرفة سببه وإلى أي مدى يمتد جذره التاريخي؟
> وقد لا نجد مناصاً من القول، إن لدى القبائل العربية صلة في الجذر التاريخي، بتكوين وثقافة القبيلة في العهد الجاهلي في جزيرة العرب، حتى أزاح الإسلام تلك الروح المنتنة بعد لأيٍ ومقاومة ومعاندة، لكن الحالة عامة حتى لدى القبائل التي لا تنتمي للأرومة والدم العربي، فقبائل دارفور ذات الأصل الإفريقي لها نفس التركيبة وذات السمات والوجدان الجمعي، فالإحساس بالقبيلة وقوة الانتماء إليها واحد لا يختلف ويتباين بين الكل، فإن غوت غووا، وهذه صارت متلازمة وقاسماً مشتركاً للجميع.. تقوى وتشتد .. من هذه لتلك!!
> وبالنظر لمهيجات ومثيرات القبائل في دارفور وولوغها في الفتن، فليس صحيحاً أن ما يجري اليوم من مستحدثات الزمن والعهد وبفعل الحكومات والعامل السياسي والتقصير الحكومي، فهذه قد تكون أسباباً موجودة بالفعل، لكن القبائل مهيأة بحكم ثقافتها وعاداتها الاجتماعية وعلاقاتها الأفقية والرأسية مع السلطة والنظام الأبوي السائد من قرون طويلة، لممارسة التضامن والتعاضد الداخلي أمام أي مساس بها، أو استفزاز تراه صغر أم كبر، وإن كان يمكن احتواؤه أو أهمل ليتعاظم إن ترك حبله على غاربه.
> فالمحير للجميع هو نوع التناصرات الداخلية التي تحركها الحمية القبلية، وتُعتسف فيها الأخلاق والقيم ويُسترخص الموت في سبيل ما لا طائل تحته، فهل النقصان في الوعي الجماعي أو القيم التي تؤمن بها هذه القبائل؟ أم هو ضعف التدين أو شح الإحساس بالحياة وحرمة القتل.. أم ماذا؟
«نواصل»
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة