وقائع تذكّر بفيلم “كلّهم أبنائي”
يعيد هذا الخطاب إلى الذاكرة قضية مقتل الديبلوماسي الأميركي، جون مايكل غرانفيل، وسائقه السوداني، عبد الرحمن عباس، في الخرطوم عام 2006 على يد متشددين إسلاميين. وبعد أن تمّ تقديم الجناة إلى العدالة بعد سنوات، اتصل محامي الدفاع بوالدة غرانفيل، لحثها على العفو، فكان ردّها أنّها لا تمانع التنازل عن القصاص والإعدام، لكنها تشترط العقاب بسجنهم مدى الحياة، لكي لا يكرروا ما فعلوه مع آخرين، وعلى أن يعتذروا للشعب الأميركي عن مقتل ابنها وللشعب السوداني عن مقتل السائق. ثم أضافت أنّ فهم هؤلاء لمبادئ الإسلام وتعاليمه خاطئ، مذكّرة بالآية الكريمة: “مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً..” (سورة المائدة :32). ولكن، رفض الجناة الاعتذار، ثم هربوا من سجن كوبر الحصين.
وتكمن المقارنة بين موقفي الوالدتين الأميركيتين اللتين تعانيان بسبب غياب ابنيهما البريئين. الأول تم تغييبه عن الوجود كليّاً، والثاني محتجز رهينة يتوعّد تنظيم “داعش” بقتله، في حال لم تكفّ الولايات المتحدة عن شنّ غاراتٍ على مواقع الدولة الإسلامية في العراق. لم يفكّر أولئك المتشددون، أو هؤلاء، في الضحايا الأبرياء، أو ذويهم، وانحصر جلّ همّهم في تنفيذ الأحكام التعسفية.
“الانتصار، أو الراحة الظاهرية، مع أذى الغير عمرها قصير”
وكلما دبّت الروح في تلك القضية بقضية مشابهةٍ، تخطر على البال المسرحية الأميركية التي قدّمها آرثر ميلر “كلهم أبنائي” عام 1947، وتم تحويلها فيلماً سينمائياً عام 1948، وفيلماً تلفزيونياً عام 1986. وقد لا يظهر الرابط الشكلي، ولكن، من حيث المضمون والرسالة، فإنّ قصة “كلهم أبنائي” تمدّ رابطاً قوياً، يكمن في صراع بطل المسرحية مع المسؤوليات. فلكي يوفّر مالاً لعائلته، تسبب في وفاة 21 طياراً بشحن أسطوانة غاز تالفة، ورأى هذا مبرّراً كافياً لكي يتحلل من مسؤوليته تجاه المجتمع. وبالنظرة هذه نفسها، القاصرة للعالم وانتصاراً لفكرة متطرفة بديلة لرحابة الفكر المتسامح، قتل أربعة متشددين دينيين الديبلوماسي الأميركي غرانفيل وسائقه السوداني، في لحظة رأوا فيها أنّ الإيمان بفكرتهم يبرّر لهم أذى الغير، وهكذا يفعل تنظيم داعش مع الأبرياء في العراق والشام.
وما هو جدير بالوقوف عنده إصرار الجناة على فعلتهم في قضية الديبلوماسي، حتى بعد أن تمت المحاكمة بإعدامهم، ثم هروبهم. وإمعاناً في الإصرار، جزموا متعنتين بقولهم “لو تم بعثه ثانية لقتلناه”. وإصرار داعش على تنفيذ عقوبته، بحسبما يصوره ارتكازه على شرعيةٍ ما، وهذا التعنت القريب، والإصرار على تصفية الأسرى، يعود بنا إلى بدائية الإنسان، قبل بزوغ أول خيطٍ من إشعاع الحضارة الإنسانية، وهي التي كانت تبيح له أن يفعل ما يراه بشأن الأسرى، إذ كان مصيرهم أن يذبحوا أو يقدّموا قرابين للآلهة. ثم ذهب التفكير السلطوي الوحشي إلى أكثر من ذلك، بأن حلّ استرقاقهم، فقد عذبت الفرس والإغريق ونكّلت بالأسرى، وعرضتهم للتعذيب والصلب والقتل. ثم تطورت فكرة الإهانة والانتشاء بإذلال الآخر الضعيف، فكان الرومان يستخدمون الأسرى وسائل للتسلية والترفيه، فقد كانوا يضعونهم في أقفاص مغلقة مع الحيوانات المفترسة، ويستمتع الوزراء والأمراء بمشاهدتها، وهي تفترسهم.
ذلك تاريخٌ لا إنساني ظلامي، من المفترض أن يكون قد ولّى بتحضر الإنسان، وارتفاعه عن بدائيته ونزعته الحيوانية الشرهة لمظاهر القتل والتعذيب. ولكن، ما لنا نعود، الآن، إلى حيث ابتدأت الإنسانية. في هذه الألفية، لا يعيد هذه المظاهر إلّا ما شهده العصر من صراعات حقوقية مريرة، من أجل الوصول إلى قوانين ومعاهدات تحفظ للإنسان كرامته وإنسانيته.
والمسؤولية كما عكسها آرثر ميلر في المسرحية هي نفسها في واقع الحادثتين، تقول إنّ من يقوم بالفعل هو الذي عليه أن يتحمل عواقبه. وأنّ الانتصار، أو الراحة الظاهرية، مع أذى الغير عمرها قصير. ومثلما حدث في المسرحية التي لم يقتل بطلها ابناً واحداً، وإنما قتل أبناء بلده، ففي واقع الحادثة الأولى أنّ الجناة لم يقتلوا غرانفيل وعبد الرحمن وحدهما، وإنّما قتلوا كلّ أمل في التسامح والتعايش مع الآخر. أما في الثانية، فإنّ خطر تنظيم داعش لا يقتصر على تهديده بقتل ستيفن، كما فعل بأبرياء كثيرين فحسب، وإنّما في اجتثاث فطرة الإنسان وتوهان بوصلته في مجاهل الإصرار على أنّ ما يفعله حق، وما دونه باطل.
الكاتبة : منى عبد الفتاح