مقالات متنوعة

شيعة السودان.. بذور الوجود وخبايا الإبعاد

شيعة السودان.. بذور الوجود وخبايا الإبعاد
انتفضت الحكومة السودانية فجأة واقفة في وجه التمدّد الشيعي، عاجلته بقرار إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية وطرد ملحقها الثقافي من الخرطوم.

لا يثير التساؤلَ أمرُ توجّه غالبية الشعب السوداني بوسطيته الدينية عكس عقارب الشيعة، ولكن ما يثيره حقا لماذا صمتت الحكومة نحو عقدين من الزمان، بل قامت بالتسهيلات الإيرانية حتى غدا الوجود الإيراني في السودان في حكم الأمر الواقع، مما استلزم الغضبة الإيرانية وردة الفعل على القرار.

بذور إيران وسُقيا الإنقاذ
لم يكن في وسع الحكومة السودانية تقدير الموقف الذي نبع عن تصريح من إيران في منتدى التقارب الفكري بين أفريقيا وإيران في العام 2010، وهو وصول الدولتين إلى مرحلة جديدة من التعاون. ذلك التعاون قام على أساس مجموعة من المصالح المشتركة بين الجانبين، اشتُرط فيها التقارب الفكري في حالة السودان، وتم التجاوز عن التباعد العقائدي في حالة الدول الأفريقية الأخرى.

“تمّ افتتاح أول مركز ثقافي إيراني في السودان عام 1988 في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي، وتزايدت المراكز ونشاطها بعد مجيء نظام الإنقاذ إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1989 بقيادة الرئيس البشير”

وتلك كانت الشرارة التي سلّطت الضوء على وضع السودان ووجوده على كفّ الرهان الإيراني. وما اشتراط العنصر الفكري لإقامة أواصر التعاون إلا لخدمة هذا التمدد الشيعي الذي لم يكن خافيا على الطرفين، وإنّما غضّ السودان طرفه آملا في مصلحة تُرجى من حليفٍ جديد.

وإذا رجعنا إلى خلفية هذه الثقة التي تتعامل بها القيادات الشيعية في السودان، نجد أنّ التشيُّع في السودان اعتمد على طبيعة التسامح الديني التي كانت حتى انفصال الجنوب متجذرة في المجتمع السوداني بتعدده الديني.

أما جرأة طرح المذهب الشيعي على أرض السودان فقد اتخذ قاعدته منذ انتصار الثورة الخمينية في 1979، وما عكسته كثورة تم تصديرها لتتلقفها الحركة الإسلامية السودانية في ذلك الوقت، ومهّدت لترسيخ وجوده العلني في نهاية الثمانينيات.

وبعدها بحوالي عقد من الزمان تمّ افتتاح أول مركز ثقافي إيراني في السودان عام 1988 في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي، وتزايدت المراكز ونشاطها بعد مجيء نظام الإنقاذ إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1989 بقيادة الرئيس الحالي عمر البشير.

في 2006 دقّ جرس الإنذار منبّها للتمدّد الشيعي على خلفية نشر ستة أجنحة في معرض الخرطوم الدولي للكتاب في ذاك العام لكتب إيرانية ولبنانية شيعية، تقدح في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. تم إغلاق تلك الأجنحة بعد حملة شعبية اعترضت على ذلك الوجود وسحب الكتب الشيعية من المعرض.

شهدت العلاقات بين إيران والسودان تطورات في المجالين العسكري الإستراتيجي والاقتصادي على مرِّ سنوات نظام الإنقاذ، تمّ مهرها بتوقيع اتفاق للتعاون العسكري والأمني في عام 2008. وفي عام 2009 تكثفت الزيارات بين الدولتين، وأدان رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني أثناء زيارته للخرطوم مذكرة الاعتقال التي صدرت من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير واعتبرها إهانة مباشرة للمسلمين. كما عبّرت الحكومة السودانية عن دعمها للمشروع النووي الإيراني.

وفي نفس العام أقيم أول احتفال شيعي بشكل علني في الخرطوم بمناسبة عيد ميلاد “الإمام المهدي”، شهده حوالي ألف من الشيعة في السودان، أعلنت بعدها الحسينيات في العاصمة وولايات السودان المختلفة احتفالاتها السنوية بعيد مولد السيدة فاطمة الزهراء وعاشوراء.

وبهذا نرى كيف يتداخل التمدد الشيعي الديني المذهبي مع التمدد الإيراني الإستراتيجي والسياسي الاقتصادي بشكل يوضح أنّ كلا التحركين في خدمة بعضهما البعض.

اتجاهات القرار ومسبباته
لا يخفى على أحد أنّ قرار الحكومة السودانية الأخير غريبٌ بعض الشيء، وذلك لأنّه بات في علم الكافة أنّ ما تمّ من نشر للمعتقد الشيعي كان تحت سمعها وبصرها إن لم يكن مباركتها. بل كانت أيّ إشارة إلى هذا الوجود فيما قبل أو إدانته يمكن أن توصل صاحبها إلى قاعات المحاكم.

الآن جاء التبرير الرسمي بإغلاق هذه المراكز الثقافية الإيرانية والبالغ عددها 26 مركزا بالعاصمة الخرطوم والولايات، من وزارة الخارجية السودانية، بأنّ الملحق الثقافي الإيراني قد تجاوز التفويض الممنوح له مما أصبح يشكل تهديدا للأمن الفكري والاجتماعي.

“كان السودان يعوّل على إيران اقتصاديا خاصة بعد انفصال الجنوب، وقد وجد السودان توجها مماثلا وإغراءات من إيران اعتمدت على إستراتيجية تقديم دعم محدود من أجل إنفاذ برامجها، ولكن المقابل لم يكن بحجم ما وفرّته الحكومة من تسهيلات”

نبع هذا القرار من عدة اتجاهات عملت بشكل متكامل على توجيه بوصلته حتى وصل إلى هذه النقطة. الاتجاه الأوّل دينيٌّ اجتماعي، فإزاء الصمت الحكومي والانشغال بالصراع على السلطة قامت المؤسسات الدينية السنية بتنظيم حملة منظمة وصلت حدّ التظاهر عند زيارة قيادات شيعية إلى السودان، وتم عقد مؤتمرات وندوات للتوعية بخطر الشيعة الذين وصل عددهم حوالي 12 ألفا.

أما لماذا انتفضت هذه المؤسسات الدينية السنية في هذا الوقت بالذات والكل يعلم أنّها تعلوها سحابة علماء السلطان، ولم تكن لها مواقف واضحة في انتقاد النظام الحاكم أو توجيهه في أشدّ القضايا وأكثرها إلحاحا مثل قضايا الفساد والفقر وغيرها، فالواقع أنّ هناك صراعات مشتعلة بين هذه المؤسسات والطرق الصوفية التي تشبه إلى حدٍّ كبير المعتقد الشيعي.

ويبدو وجه التشابه في طقوس التبرّك بقبور الأولياء الصالحين وتقديس الأحياء منهم والقيام ببعض الشعائر الأخرى. ومن ثغرة مشاعر التعاطف السوداني مع آل البيت بحكم انتشار التصوف في السودان، نفذ البعض لاعتناق المذهب الشيعي من باب الطريقة الصوفية.

أما الاتجاه الثاني فهو سياسيٌّ، يتضح في تفاقم حجم عزلة السودان الدولية. فعندما اتجه السودان صوب إيران كان بدافع هذه العزلة التي خلقتها العقوبات الأميركية والقرارات الدولية بتصنيفه من ضمن الدول الراعية للإرهاب ومكوثه في هذه القائمة بمعية إيران. الآن تفاقم هذا الخطر لأنّ العزلة أصبحت في محيطه الإقليمي ومن الدول المجاورة ودول الخليج.

والاتجاه الثالث هو اقتصادي، فعندما اتجه السودان نحو إيران كان يعوّل عليها اقتصاديا خاصة بعد انفصال الجنوب، وقد وجد السودان توجها مماثلا وإغراءات من إيران في هذا الشأن اعتمدت على إستراتيجية تقديم دعم محدود من أجل إنفاذ برامجها، ولكن لم يكن المقابل بحجم ما وفرّته الحكومة من تسهيلات.

ولم يظفر السودان من هذا التعاون إلا بمقترحات لمشاريع عسكرية هدفها الطعن في ظلّ الفيل الأميركي، كما لم يكسب من إيران شيئا يُذكر غير ما أرادت هي إنفاقه في خدمة مصالحها ووجودها في السودان وتوسعها نحو أفريقيا. بل يمكن القول إنّ السودان قد خسر بفقده دعم دول الخليج بالمقابل والتي كانت تدرّ عليه المساعدات ومشاريع التعاون في مجالات الاستثمار الزراعي والصناعي والتجاري وغيرها، وهكذا لم تنفع إيران السودان حين عاقبته أميركا، وزادت من عزلته الاقتصادية حين كفّت دول الخليج يدها عن مساعدته.

أبعاد القرار
كلٌّ من الاتجاهات السالفة الذكر يمكن أن يؤدي إلى بعدٍ ينتهي عنده هذا القرار أو يعمل على تفعيله في مقبل الأيّام. البعد الأول ذو منحى ديني اجتماعي، فمن المتوقع نشوب صراع طائفي بين السنّة من جهة وبين الشيعة مدعومة بالطرق الصوفية من جهة أخرى. ولن يسلم المجتمع السوداني المنفتح في توجهاته من حالات الاستقطاب الديني، خاصة أنّ المذهب الشيعي سيكون محظورا بعد هذا القرار مما ينمّي قوة دفع خفية في اتجاه اكتشافه ومعرفة أسباب منعه، وتصوير الحادثة بشكل بطولي قد تستوجب الوقوف في وجه النظام الحاكم.

ويرتبط بهذا الوضع البعد السياسي الداخلي الذي يتغذى على خلافات الحركات الإسلامية في السودان، وقد تظهر معارضة من نوع جديد وهي المعارضة الدينية بالثوب الشيعي تضاف إلى أجساد المعارضة الأخرى، الفاعلة منها والعاطلة.

“الرياح التي أدخلتها الحكومة بيديها كانت بالتسهيلات التي مكّنت من الوجود الشيعي حتى اتخذ مكانا بين الطوائف الدينية السودانية، ثم جاءت وعكست اتجاه الرياح مرّة أخرى بشنّ الهجوم على هذا الوجود وتجفيف منابعه”

أما البعد السياسي الدولي فيتشكل من استغلال بعض دول الجوار لهذا الصراع، وخلق تحالفات جديدة ضد الدولة السودانية في حالة الشريط الأفريقي المدعوم من إيران، أو معها في حالة المحيط السنّي متمثلا في دول الخليج.

أما البعد الاقتصادي فهو برجوع السودان إلى انتمائه لأشقائه من الدول العربية والتي كانت تمثل شريانه الدفّاق، دول الخليج العربي باستثمارات تفوق ثلاثين مليار دولار ومساعدات خيرية لا تُحصى خاصة في أوقات الكوارث والأزمات.

بدأ قرار إغلاق المراكز الشيعية في السودان سياسيا، ولكن ها هي الحكومة تُلقي به في قاعة البرلمان ليتخذ شكلا قانونيا، حسب تصريح رئيس البرلمان السوداني الفاتح عز الدين الذي وجّه لجنة العدل والتشريع بسنّ قانون يجرّم الشيعة.

وهكذا هو حال الحكومة السودانية المتحولة من النقيض إلى النقيض، تفتح على البلاد بابا يصعب سدّه، فالرياح التي أدخلتها الحكومة بيديها كانت بالتسهيلات التي مكّنت من الوجود الشيعي حتى اتخذ مكانا بين الطوائف الدينية السودانية، ثم جاءت وعكست اتجاه الرياح مرّة أخرى بشنّ الهجوم على هذا الوجود وتجفيف منابعه.

وما بين هذا وذاك يظلّ السؤال القائم بين ثنايا الترك والمنع هو: هل ستتمكن الحكومة السودانية -ولو بقوة القانون- من التضييق على الفكر الشيعي والحريات، في ظلّ نظام عالمي أكثر ما يؤرقه هو عدم مقدرته على كبح الأفكار؟

خطت الحكومة بالدولة السودانية خطوات نحو إيران ومذهبها، بات النكوص عنها مكلّفا أكثر مما توقعت. وإن كان هناك ثمّة مكاسب على المستويات الثلاثة المذكورة: دينية أو سياسية أو اقتصادية لم تجنها بما تلمسه من دول الخليج القريبة قلبا وجغرافية، فلن يكون بأيٍّ حالٍ من الأحوال بما يتراءى من سراب إيران الرقراق.

الكاتبة : منى عبد الفتاح