قصة ما حدث :المعارضة تتظاهر والحكومة تظهر القوة
هكذا كتب ليوم الإثنين ان يدون اسمه مرتين فى تاريخ السياسة السودانية عبر مشهدين مختلفين الاول عند بدايات السنة الاولى لنيفاشا بعد رحيل احد رجالها زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الدكتور جون قرنق ، وهاهو الإثنين الثانى يأتى فى مطلع عامها الاخير مسجلا اسمه كاطول نهار تعيشه الخرطوم منذ هبة سبتمبر (الشجاعة) كما يصفها صناعها من طلاب الجامعات السودانية فى العام 1996م عندما خرجوا الى الشوارع كاسرين حاجز الخوف واطواق الاجهزة الامنية التى ضربها نظام الإنقاذ منذ اطاحته بالنظام المنتخب فى صباح الثلاثين من يونيو 1989م .
صباح الأمس يأتى بعد ثلاثة عشر عاماً من الصمت والكثير من التحولات التى جرت على سوح السياسة السودانية ، بعد ان شهدت البلاد العديد من التغيرات فى تركيبتها، فبعض من كانوا يقودون سفينة الإنقاذ فى تلك السنوات هم ذاتهم قادة المواكب الاحتجاجية التى انتظمت امدرمان منذ ساعات الامس الباكرة تتشابك اياديهم مع لافتات وهتافات من كانوا يناصبوهم العداء سابقا من اعضاء وقيادات فصائل المعارضة السودانية التاريخية والحديثة وجماهير الحركات الموقعة مع الحكومة اتفاقات سلام نيفاشا و أبوجا فى محاولة وصفها كل المراقبين بانها جاءت متأخره كثيرا .
ممنوع الخروج
على الرغم من اعلان مجلس الوزراء يوم امس عطلة رسمية فى كل انحاء السودان ارجع اسبابها لاعطاء اكبر عدد من المواطنين فرصة تسجيل اسمائهم ضمن السجل الانتخابى فى يومه الاخير ، واعتبره الكثيرون بأنه محاولة من الحكومة لافشال موكب المعارضة السلمى المعلن والمقرر له يوم امس وربطوا ذلك الامر بالوعيد الذى ارسلته الشرطة عبر بيانها الاستباقى التحذيرى قبل يوم ، الا ان الموعد المضروب وهو التاسعة صباحا للتجمع امام البرلمان كان يدعم ماذهب اليه المواطنون فى تفسيرهم لامر العطلة، فالقوات التى انتشرت على طول شارع الموردة وتجمعت بشكل كثيف فى المساحة الواقعة بين مدخل كوبرى امدرمان وجسر خور ابوعنجة تلك المنطقة التى يتوسطها البرلمان المحطة الاخيرة التى يقصدها موكب المعارضين كانت تحمل رسالة واحدة بمثابة خلاصة لكل التحذيرات والتصريحات السابقة مفادها وعنوانها واضح بشكل جلى وهو ممنوع الخروج مهما كان مقام الخارجين.
الشريك فى قبضة الشرطة
قبل ان تندلع شرارة المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين بعد رفض الاولى التجمع او التحرك نحو البرلمان كان قادة الحركة الشعبية محتجزون داخل قسم شرطة الاوسط امدرمان بعد توقيفهم لحظة نزولهم من سياراتهم وعلى رأسهم الامين العام للحركة الشعبية باقان اموم ونائبه رئيس الكتلة البرلمانية لنواب الحركة ياسر عرمان ووزير الدولة بالداخلية عباس جمعة بجانب عدد من اعضاء الحركة بالبرلمان الامر الذى جعل عدداً من المشاركين ان يضعوا سيناريوهات متعددة يغلب على اكثرها التكهن بساعات اكثر سوءً يمكن حدوثها حال انفلات المتظاهرين خصوصا اعضاء الحركة الشعبية بعد انتشار خبر توقيف قادتهم من قبل الشرطة، وفى الاذهان ما حدث فى ذات الموقع قبل ثلاثة اعوام فى الثامن عشر من رمضان عند توقيف اعضاء من حركة تحرير السودان بقيادة مساعد رئيس الجمهورية منى اركو مناوى وما تبعها من احداث عنيفة الا ان المتظاهرين كانوا يركزون على هدف واحد هو الوصول الى البرلمان ولا شئ آخر.
العاشرة إلا ربع
بعد ان فشل موكب المعارضة في الوصول الى البرلمان من الجهة الجنوبية المطلة على مستشفى السلاح الطبي تسلل المشاركون الى داخل حى بانت عبر الشوارع الداخلية وجمعوا انفسهم مرة اخرى بميدان بالجهة الجنوبية الشرقية وحاولوا الكرة مرة اخرى متخذين من الجانب الغربى لمجلس الاحزاب طريقا لهم لكن قوات الشرطة كانت مرتكزة على طول الشارع الرئيسي امام البرلمان واضعه الشوارع المؤدية الى هناك داخل طوق امنى مشدد ، الامر الذى جعل المتظاهرين يحولون مسارهم الى دار الامة عبر الازقة الداخلية يلوحون بلافتاتهم المنادية بتعديل القوانين المقيدة للحريات بجانب اخريات تبحث عن سلام لدارفور يرافقها هتاف عالى يمجد تماسك القوى المعارضة وينادى بتحالفها يقوده شباب فى تناسق مع قادتهم الذين ظهروا هناك على رأسهم (ابراهيم الشيخ رئيس المؤتمر السودانى، مريم الصادق و سارة نقدالله الامة القومى بجانب القيادى بحزب البعث وجدى صالح ) الامر لم يستمر كثيرا بعد ان اطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع وبدأت فى مطاردة المتظاهرين داخل الاحياء معلنة بذلك المواجهة المرتقبة .
دار الأمة تحت الحصار
حصار عالى ضربته قوات الشرطة بجانب سيارات جهاز الامن والعمليات على دار حزب الامة القومى بامدرمان ومنعت الخروج او الوصول الى هناك امام المواطنين والاعلاميين، فى الوقت الذى كان فيه الهتاف يعلو من المتواجدين بداخله ، وفى الجانب الآخر كان عدد كبير من المشاركين فى التظاهرة ينوى الوصول الى هناك عبر العديد من الحيل تاره عبر مواكب تصطدم بالشرطة دون الوصول الى مبتغاها ومرة عن طريق التسلل نجح عبرها الكثيرون ، ليتواصل الهتاف الذى تتخلله مخاطبات تقودها مريم الصادق وعدد من قيادات الاحزاب الوسيطة وحشد كبير من الطلاب تمركزامام الشارع العام وبالجانب الآخر كانت تقف عربات الامن والمخابرات وعلى ظهرها جنود مدججون بالسلاح خلفهم قوات الشرطة الخاصة تنتشر على طول وعرض الطريق وترتكز بالشوارع الداخلية متحسبة لاى مفاجأة تحدث ، الامر لم يستمر طويلا فالهدوء الذى تقطعه الهتافات عند مرور مواكب الشرطة انفجر عند الواحدة ظهرا بعد ان قامت الشرطة بتفريغ المتجمعين واطلاق غازها المسيل للدموع داخل دار الامة .
الطلاب أكثر شراسة
تجمع طلاب الاحزاب كان اكثر شراسة وعدم يأس فبين الحين والآخر كانوا يحاولون الوصول الى المجموعات المحتشده بدار الامة وتقف الشرطة امامهم دون ذلك والشاهد على الامر انهم كانوا يلوحون باللافتات دون استخدام الحجارة او غيرها وبمجرد ان تهاجمهم الشرطة يديرون ظهورهم خلفا يرددون ذات الهتاف (وحدة بلادنا هى الأصل ) معا من اجل تغيير القوانين ، ويقودهم عدد من الكوادر التى اظهرت حسما عالٍ وتشدد فى التوجيهات بعدم التعرض لاى شخص والانصياع الى الشرطة والامن وحاولوا فى ثلاث مرات الوصول الى دارالامة وكان مصيرهم الضرب بالهراوات واطلاق الغاز المسيل للدموع والمطارده الا ان عدداً منهم افلح فى المرة الاخيرة ودخلوا إلى هناك عبر مدرسة الأحفاد .
الشرطة تواصل الاعتقال
لم يكن توقيف قادة الحركة الشعبية هو الاخير بل تعداه الى عدد آخر من القيادات والمتظاهرين ، الذين كانوا يحاولون الوصول الى مكان تجمع الموكب بعد تفريقه من امام البرلمان ، فالامين العام للمؤتمر السودانى ابلغنا بتوقيف رئيس الحزب ابراهيم الشيخ وعدد من المشاركين فى المظاهرة وتحويلهم الى قسم السوق .
قف أمامك تفتيش
فقط اختفت اللافتة التى كانت تحمل تلك العبارة ، لكن المركبات الخارجة من قلب الخرطوم الى امدرمان كانت تخضع الى تفتيش من قبل قوات الشرطة وآخرين يرتدون زيا مدنيا ، الامر الذى اثار شيئاً من الدهشة والاستغراب وسط المواطنين الذين يستقلونها ، وتم ذلك الامر امام مدخل كوبرى الفتيحاب عند الثالثة ظهرا .
ايصال لصحيفة الميدان
وسط تلك الاجراءات المشددة تم توقيف السيارة التى كنا نستقلها انا وعدد من الزملاء الصحفيين من صحيفتى (الخرطوم مونتر والميدان) يقودنا الصديق خالد وداعة ، وبعد التأكد من هويتنا تم تدوين بيانات رخصة القيادة بسبب التظليل الجزئي للزجاج الخلفى وطلبوا منا التحرك فى تلك الاثناء سألنا شرطى المرور عن وظائفنا وعندما اخبرناها باننا صحفيون وبدأنا فى تسمية مؤسساتنا ابتدرها الزميل محمد الفاتح وقال ( أنا الميدان) فى تلك اللحظة انتفض الشرطى وطلب منا الذهاب الى القسم مضيفا (ايوا انتو الصورتونا وكتبتوا عننا ) وانصعنا للامر وحررت لنا المخالفة وبعد خروجنا قلت له مازحا ( هذه المخالفة عليك ان تحولها الى الادارة المالية لصحيفة الميدان) التى لولاها لما تم تغريمنا .
المعارضة تخرج والحكومة تستعرض
خرجت المعارضة بموكبها الذى اعلنت عنه وواجهت الشرطة التى انتشرت بشكل واسع فى مدينة امدرمان التى تحولت الى ارض معركة حقيقية نهار الامس ، استخدمت الجماهير الهتاف والطرف الثانى كان يعد نفسه بشكل واسع فالقوات الامنية التى خرجت امس واحتلت شارع الموردة بالكامل مستقلة كل انواع الدواب فالخيول كانت تشارك فى المعركة جنبا الى جنب السيارات اللاندكروزر التى تقل الجنود واسلحتهم الرشاشة ، فمظهر المواكب التى كانت تجول ذهابا وايابا حامله فوق ظهرها دوشكات وجنود متأهبين (علق على الامر احد الزملاء قائلا الحكومة استغلت مظاهرة المعارضة واقامت اظهار قوة )
خرجت المعارضة كما وعدت واوفت الحكومة بما هددت وعاد الجميع الى دورهم ومكاتبهم الا ان الوطن لازال يقف حائراً حول ما ستؤول اليه الاحداث فى مقبل الايام، فالشريك الثانى اطلق تصريحات نارية وشن هجوماً على المؤتمر الوطنى بعد خروج امينه العام الذى اعلن انهيار التفاوض مع شريكه فى الحكم وقفل باب الحلول السياسية التى كشف عنها وزير الدولة بالإعلام القيادى بالمؤتمر الوطنى كمال عبيد لقناة الجزيرة نهار الامس فالحركة قادتها تم توقيفهم وتحويل نائب أمينها العام للمستشفى بعد تعرضه للضرب من قبل الشرطة على حد قول باقان ، فالإثنين الثانى أسدل ستاره دون أن يضع نقطة فى سطر السيناريوهات القادمة أو يعرض ولو لمحة من محتواها .
عباس محمد إبراهيم :الصحافة