تحقيقات وتقارير

سطوة العثمانيين هل تتجدد ؟

بعد ان بدأت القوى الأوربية المنتصرة تقسيم الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى علق الضابط البريطاني ارشييولد وايفل قائلاً إنها لم تكن حرباً لإنهاء حرب بل سلاماًلإنهاء السلام! .. ولقد صدق التاريخ توقعه بشكل لم يكن هو نفسه يتخيله إذ شهدت العقود التي تلت تلك الفترة تعاقباً من سوء الحكم الإستعماري والإنقلابات والثورات ووباء العنف الجهادي.. وحتي الإجتياح الإمريكي على العراق والتي زعمت الولايات المتحدة الإمريكية انهاأرادت من ورائه فرض النظام بالمنطقة كان قد ترك فراغات في السلطة جاعلاً العراق أضعف من أن يتمكن من إرساء ثقل متوازن مع جيرانه بل هدد بنسف إ ستقرار الخريطة السياسية للمنطقة بكاملها.. وفعلت تركيا بوصفها المقر القديم للسلطة العثمانية كل ما بوسعها كي تنأى بنفسها عن القتال حتى إنها رفضت السماح للقوات الامريكية بعبور الأراضي التركية لتنفيذ الاجتياح عام 2003م ومع ذلك الأتراك لا الإيرانيين هم الذين حصدوا ثمار الحرب.

على الصعيد الإقتصادي تتنافس تركيا مع إيران على موقع الشريك التجاري الأكبر للعراق حتى في الوقت الذي تقف فيه معظم الشركات الامريكية عاجزة.. ولما لم يكن لتركيا منافس في التأثير الإقليمي بالمنطقة فان رئيس الوزراء التركي صاحب الوجه الصارم الملامح رجب طيب اوردغان يعمل علي ترسيخ تلك القوة موكداًإستقلال تركيا في ذلك الجزء من العالم الذي طالما سيطرت عليه أمريكا بأن وقف بجانب صديقه المقرب الرئيس الإيراني محمدأحمدي نجاد في طهران ودافع عن البرنامج النووي الإيراني قبيل أسابيع قليلة من زيارته المزمعة الى أمريكا للقاء الرئيس الأمريكي براك أوباما.

ولعل هذا السلوك وغيره الكثير السبب وراء قلق شركاء تركيا المخضرمين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ولعل أكبر مخاوفهم تدهور العلاقات مع إسرائيل التي كانت من قبل حليفة مقربة لتركيا بسبب الهجوم العكسري على غزة مطلع هذا العام والذي اودى بحياة 1400 فلسطيني بسبب إضطهاد منظمة حقوق الإنسان الشئ الذي جعل اوردغان ينسحب من المنتدى الإقتصادي العالمي إحتجاجاً على القتلى الذين سقطوا أبان الهجوم الإسرائيلي ليلقي إتفاقاً قائماً منذ عقد من الزمان يسمح بموجبه للقوات الإسرائيلية بالتدريب على الأراضي التركية.

وفي ذات الوقت ظل رئيس الوزراء التركي رجب طيب اوردغان يدعم وبشكل مستمر الرئيس السوداني عمر أحمد البشير نافياً أن يكون مذنباً بارتكاب إبادة جماعية في دارفور واصفاً إياه بالمسلم (الصالح) الذي لا يمكن أن تصدر عنه مثل هذه الأفعال.. ويصف مستشار اوباما حول تركيا في وزارة الخارجية الامريكية العلاقة بين واشنطن وانقره قائلاً: (في الوقت الحالي فإن نقاط الإختلاف أكثر من نقاط الإتفاق).

ولعل مخاوف واشنطن تجاه أنقره يحركها الشك في أن الدافع وراء سلوك أنقره الجديد أيدلوجياً إسلامية بالكاد تتمكن أنقره من إخفائه أكثر من سعي عملي لتحقيق المصالحة القومية التركية ولطالماأنكر أردوغان الخلط بين الدين والسياسة غيران المحاكم العليا في تركيا قد حققت مراراً وتكراراً مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تهم تتعلق بتغويض إلتزام تركيا الدستوري بدولة علمانية بحتة، وبغض النظر عن السياسة الرسمية فقدإتسمت المواقف التركية حيال أ وربا بفتور واضح في الأعوام الخمسة الماضية تزامن مع إرتفاع وتيرة العداء تجاه المؤسسات الغربية مثل صندوق النقد الدولي ويقول الخبير السياسي التركي كمال كوبر دلو (لم أجد في الحكومة أدنى جهد لكبح العداوة المتزايدة لأمريكا في تركيا، ولا تستطيع الحكومة أن تقر بالأمرإلا ان آلية صنع القرارات في السياسة الداخلية والخارجية لم تأخذ القيم الغربية في الإعتبار).

إن الاتراك معذورون خاصة إذا فكروا في أن صانعي القرارات في الغرب لا يكترثون دائماً للمصالح التركية.. فخلال الحرب الباردة فعلت واشنطن كل ما يلزم لإرساء الإستقرار في المنطقة ومنع الكرملين من إكتساب نفوذ فيها وذلك من خلال دعم حلفاء موالين للغرب مثل شاه ايران والجنرالات الأتراك الذين انتزعوا السلطة من أيدي حكومات مدنية ثلاث مرات متتالية خلال ثلاثة عقود وكانت النتيجة كارثية لامريكا فقدإنتهى بها الأمر مع حلفاء فقدوا ثقة شعوبهم ولقد بلغ الإستياء التركي تجاه الولايات المتحدة ذروته في العام 2003م عندما ضغطت إدارة بوش على انقره للسماح للقوات الامريكية باجتياح العراق عن طريق الأراضي التركية إلا ان ثورة النواب في البرلمان التركي قد أحبطت الخطة في اللحظة الأخيرة

وبالرغم من ان هذه المحطة كانت الأسوأ في العلاقة بين تركيا وواشنطن إلاأنها شكلت بداية صعود تركيا نحو المعافاة الإقتصادية والتأثير الإقليمي وحولت تركيا من مجردأداة خاضعة للولايات المتحدة في المنطقة الى (شريك في كل مشاكل المنطقة) على حد وصف وزير الخارجية التركي أحمد داؤود اوغلو وبغض النظر عن الطموح الذي راود تركيا في السابق إلا انها لم تتمتع بالقوة الإقتصادية والسياسية والعسكرية لتحقيق هذا الطموح إلا ان هذا العقد سيما منذ العام 2002م مع وصول اوردغان وحزب العدالة والتنمية الى السلطة اذ تضاعف حجم الاقتصاد التركي أكثر من مرتين في العقد المنصرم فتحولت البلاد من متأخر متسم بالركود الى مركز نفوذ إقليمي وانصب تركيزها المالي على دول الجوار فاصبحت علاقتها التجارية مع روسيا والعراق وإيران تفوق علاقاتهاالتجارية مع الاتحاد الاوربي إضافة الى ان سياسة الطاقة كانت لمصلحة الأتراك الذين وجدوا انفسهم عند تقاطع ما لا يقل عن ثلاثة طرق متنافسة لنقل الطاقة الى أوروبا من روسيا وبحر قزوين وإيران.. وتعود سنوات من الإصلاح والإستقرار بثمارها فأنقرة على وشك توقيع إتفاق تاريخي مع الاقلية الكردية في تركيا من أجل وضع حد لتمردأسفر عن مقتل 000.35 شخص خلال الربع الاخير من القرن الماضي كما انها تعقد سلاماً مع بلدان مجاورة تدعم المتمردين مثل سوريا وايران وارمنيا ويقول أحد كبار معاوني اوردغان رفض الإفصاح عن هويته (إن المبدأ بسيط لا يمكنناأن نزدهر إذا كنا نعيش في جوار فقير ولا يمكننا ان نكون آمنين اذا كنا نعيشي في جوار عنيف).

وبفضل دبلوماسية حكمية وتوسيع روابط الأعمال في مختلف انحاء المنطقة تقترب تركيا من تحقيق ما يسميه داؤود اوغلو (سياسة إنعدام المشاكل مع الجيران) إذ أصبح الاتراك الوسطاء المفضلين في المنطقة الرازخة تحت المتاعب إذا تمت الإستعانة بهم للمساعدة على حل الخلافات بين حركتي حماس وفتح في فلسطين وبين العراق وسوريا وإسرائيل وسوريا وفي مؤتمر صحفي عقده ارودغان مؤخراً في روما أعرب غاضباً عن تلاشي أصله بقدرة تركيا عن فعل المزيد تجاه الملف السوري الاسرائيلي قائلاً (إن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يثق بنا وهذا خياره لكن لا يزال آخرون في المنطقة يرحبون بالمساعدة التركية كما أن الدبلوماسيين الاتراك مدربون بطريقة ممتازة على تسوية النزاعات).

وتصر أنقره على ان صداقتها الجديدة في المنطقة لا تهدد روابطها مع الغرب كما انها لا تستطيع أن تتجاهل الشرق الأوسط أو شمال افريقيا أو حتى آسيا أو افريقيا ككل.. لقد شهد العالم تغيراً جذرياً منذ سقوط العثمانيين ومن غير المحتمل ان تستعيد تركيا السلطة الإمبريالية التي تمتعت بها طوال 350 عاما من الجزائر الى بودابست ومكة.. إلا أنه وبينما يحاول العالم وأخيراً أن يتجاوز سلام الـ 90 عاماً الذي أنهي السلام تركيا هي في الموقع الافضل لإصلاح الضرر الذي وقع وإعادة الامور الى مجراها الطبيعي.

المصدر :آخر لحظة
ترجمة :إنصاف العوض