أبشر الماحي الصائم

رحل جدي الدود وبقيت الصورة


[JUSTIFY]
رحل جدي الدود وبقيت الصورة

كان رُسل السادة الأشراف المراغنة إذا وفدوا إلى هذه المنطقة، فإنهم ينزلون في حوش جدنا (الأمين ود البلولة).. كان ذلك قبل أن ينغمسوا بكلياتهم في السياسة وتصبح وجهتهم الجديدة عواصم عالمية مثل لندن والقاهرة والمدينة المنورة.. كنا كثيرا ما نقف ونحن صغارا عند المسرح المنصوب في أقصى الحوش من الجهة الغربية والمصنوع من المواد المحلية.. كان يصعد عليه موﻻنا الميرغني عند زيارته للمنطقة لمخاطبة جموع الجماهير التي تتدفق إلى هاهنا من القرية والقري المجاورة.. إنه شرف ﻻ يدانيه شرف أن تكون دارك منزلة للسادة المراغنة.. ولم يكن هذا الاختيار والاصطفاء عشوائيا، إذ أن في بيت جدنا المشيخة الموصولة بالعمودية التي تتخذ من (حوش الهمزياب بالباوقة موطنا).. تجففت رحلات السادة الأشراف في الفترة الأخيرة وتعرض المسرح لعوامل الطبيعية، إذ اجتاح النيل في فيضاناته الأخيرة هذا الحوش.. ولكن عوامل الطبيعية والزمن وانحسار رحلات السادة المراغنة لم تكن كافية لمحو هذا الإرث التاريخي الباهظ من وجدان جدنا عبدالرحمن الأمين الشهير بـ (الدود).. الذي رحل مطلع هذا الأسبوع عن دنيانا الفانية بعد عمر مديد عامر بالمكرمات.. إذ ﻻ أعرف لجنة تشكلت في القرية ولم يكن هو أمين مالها.. فكان رحمه الله اسماً على مسمى عبدالرحمن (الأمين).. أما عن الصلات مع السادة الأشراف، فحدث وﻻ حرج.. ففي هذه البيئة المشبعة بأدبيات السادة المراغنة نشأ وترعرع وشب وشاب.. وكانت وصيته دائماً أن نحافظ على مكانة البيت الميرغني وأن نتأدب في حضرتهم وأن نزورهم في دوائرهم.. فغير المحبة فهناك ثمة أرحام.. إذ أن والدة السيد علي الميرغني تنحدر من جزيرة أرتولي معقل أهلي الانقرياب.. عبدلاب.. وهم القوم الذين قيل فيهم أكان ﻻقاك الانقريابي والدابي فاقتل الانقريابي وخل الدابي.. تنحدر أصولهم من مملكة العبدﻻب واتخذوا من هذه المنطقة التي تفصل بين الميرفاب والرباطاب موطنا منذ قرون من الزمان.. وكان لي عند جدي الدود مودة خاصة وهو يدرك أن بيدي قلماً وقرطاساً وسهماً.. وإذ أكرمني الله سبحانه وتعالى بالحفاظ على وصيته إذ لم يطش لي سهم قط باتجاه البيت الميرغني برغم تعرجات السياسة وتباعد الأفكار.. فمنذ عام تقريبا وجدت نفسي أمام مولانا محمد عثمان الميرغني بدار أبوجلابية بالخرطوم بحري.. ذهبنا يومها لاصطياد أرنب فاصطدنا فيلا كما هي مقولة السيد الصادق المهدي بعيد لقاء جبوتي.. ذهبنا لتغطية حادثة إنضمام الرياضي مجدي شمس الدين فاصطدنا الميرغني.. كأنما الأقدار هي التي ساقتني لأحقق لجدي رغبته، فدنوت بأدب من مولانا الميرغني وعرفته بنفسي وعشيرتي، وطلبت منه أخذ صورة توثيقية فاستجاب.. فكانت بالنسبة لي ولجدي تلك الصورة بمثابة (صورة العمر).. وأذكر وأنا أعالج بروازها بحلة كوكو قابلني رجل بطحاني فقال لي مباشرة (يازول دا ود الميرغني)، قلت نعم.. ودا أنت المصور معاه.. قلت نعم قال “والله انت فارس خلاص إتصورت مع الزول دا كيفن؟!” فادركت لحظتها أن جدي ليس وحده، إذ يشاركه الكثيرون هيبة السادة المراغنة.. فأرسلت على عجل تلك الصورة إلى جدي بعد أن كبرتها وبروزتها في أفخم الأطر والبراويز.. فلم يكن من جدي إلا أن وضعها أعلى وسادته ينظر إليها صباحاً ومساءً، بل كل ساعات النهار.. وحفظ لي حق هذه المبادرة، إذ أن كثيرا من الخلفاء الذين أفنوا حياتهم في خدمة السادة الأشراف لم يحظوا بما حظيت به، إذ يعدها جدي واحدة من المكرمات والاصطفاءات و.. و..

بالأمس كالصاعقة وقع علينا نبأ رحيل جدنا الدود، فهرعنا جماعات وأفرادا إلى القرية التي وجدناها كما قرية الكباشي يوم رحيل شيخها.. المشهد كما صوره عكير الدامر..

خبر الشوم طلق هز القبب واترجّت

والنار في الدراويش البترجمو وجّت

أسراب المعزين بالشوارع عجّت

وربات الخدور نزعت حجابها وقجّت

فلقد ضاقت قريتنا بجموع المعزين على رأسهم معتمد بربر الأستاذ حسن سليمان ووفد الختمية المرسل بعناية من قبل موﻻنا ووفود القبائل والقرى والحضر و…

فهرعت إلى البرندة فوجدت الصورة وحيدة حزينة، فقد رحل جدي الدود كما يرحل القمر مخلفا ظلاما ووحشة رهيبتين.. اتكسر المرق واتشتت الرصاص.. وانهد الركن الكان بلم الناس.. اللهم إنه فقير نزل بساحة رحمتك فاكرم نزله يا أرحم الراحمين.. واجعل اللهم البركة في أبنائه (العوض وبابكر والأمين والسعدية وزينب وبنت وهب)، وأحفاده من بعده وأهله وعشيرته.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. وﻻ حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

[/JUSTIFY] أبشر الماحي الصائم
ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي
[EMAIL]Malazat123@gmail.com[/EMAIL]

تعليق واحد

  1. اللهم ارحمة واغفر لة وادخلة مدخلا حسنا مع الصديقين والشهداء. وارحم اللهم جميع موتانا ومتى المسلمين.
    جزيت خيرا أخونا أبشر وكل عام وانتم بخير