مصر ووجه العدالة الآخر
ذاك تاريخ ظلامي، كنا نظنه قد ولّى، بتحضر الإنسان وترفعه عن بدائيته وطبيعته الشرهة لمظاهر القتل والتعذيب. ولكن، ما لنا نعود، الآن، من حيث بدأت الإنسانية، ولسنا مضطرين، كذلك، الى العودة إلى بداية هذه الألفية التي شهدت صراعات حقوقية مريرة من أجل الوصول إلى قوانين ومعاهدات تحفظ للإنسان كرامته وإنسانيته وحقوقه. فبالنظر فقط فيما يجري، الآن، في بعض الدول العربية، وفي مصر خصوصاً، والتي تزداد عذابات أبنائها وبناتها، قتلاً واعتقالاً وترهيباً، لا لشيء إلّا لمطالبتهم بتسليط سيف العدالة على من اعتدى على المواطنين الأبرياء، يدرك، تماماً، أنّنا في ردة إنسانية رهيبة.
تؤكد دعوة الأمم المتحدة الدائمة الدول الإفريقية بتقديم العدالة على السلام على أنّها في هذه البقعة مجرد أحلام تتوق إلى تحقيقها في الواقع من دون جدوى. ومصر التي رنا إليها شعب شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، بسهام أعينهم، من أنّها حقّقت ما لم تستطعه دولها في اقتلاع جذور الديكتاتورية، وتثبيت أوتاد الديمقراطية، لم تلبث أن انقلبت على أعقابها موطدة نظاماً ديكتاتوريّاً آخر، قبل أن يمعنوا فيها النظر، ليظلّ الصراع الأزلي على الأرض بين هدفي السلام والعدالة، من دون أن تكون هناك أولوية لأيٍّ منهما.
سلطة الانقلاب تباهي بعلاقاتها مع الغرب، لتأكيد اعترافه بها، ويقدم مسوّغاً أخلاقياً لممارساتها، وتُدرك أنّ هذا الحبل قصير. فالغرب قد يذهب بعيداً مع حكومة متسلطة وديكتاتورية، ما دامت تحافظ على مصالحه، لكن الجرح الإنساني الغائر الذي أرسى لديمقراطياته العديدة سيبرز، طال الزمان أو قصر. وهذا درس متكرر لم تفد منه مصر وغيرها من دول الربيع العربي، حتى بعد أن فرضت العدالة نفسها، فكانت نفحات هذه الثورات التي جعلت العدالة السماوية شرارتها إفريقية من تونس ومصر وليبيا. وقد كان هذا عين ما تطلبه القارة في خضم صراعات زعمائها الأهلية والسياسية على السلطة وسيادة الأقوى. وخرجت من الاستعمار الأجنبي الذي نهب الثروات وأضعف البلاد والعباد إلى استعمار داخلي، يدير عجلة الزمان إلى ما قبل نضال أبنائها لنيل الحرية بدمائهم، لتُرجع شهوة السلطة معظم دول القارة إلى مثلث الجهل والفقر والمرض.
”
الغرب قد يذهب بعيداً مع حكومة متسلطة وديكتاتورية، ما دامت تحافظ على مصالحه.
”
لم يقف جهد المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان في مصر عن السعي الدؤوب والمتواصل للمطالبة بحقوق المتهمين الإنسانية في السجون ومحاولات إيجاد حل متكامل، حتى أوان عرضهم لمحاكمات عادلة. عشرات آلاف الضحايا، ومثلهم في المعتقلات مهددون بإزهاق أرواحهم بالتعذيب وعدم الرعاية الصحية التي كفلتها القوانين الدولية للمعتقلين، غير العدد الكبير الذي دخل في الإضراب عن الطعام. وفيما يبدو لا وقت فاصل بين هذه الأحداث الجسام، ليقف على ما حملته المعلومات الاستقصائية للمنظمات الحقوقية المحلية والدولية، ويفيد بالمعاملة غير اللائقة التي تتم في حقهم.
فعلها الجنرال وفاجأ الواقع السياسي المصري، حين تجنّى حكمه على العدل، وهو يفتح آخر طلقة من ماسورة أدلته المبنية على خصومة من أتى به إلى موقع التتويج، خاطباً ودّ من يرى في إدانة الصبية الصغار حلّاً للأزمة، كاشفاً للريح جراح مصر التي يحاول أهلها مداواتها بكل السبل. وبينما يقرر العقلاء المواجهة بالوسائل القانونية والإعلامية وإعادة النظر لأخطر ملف إنساني مؤجل في أصل الثورة ضد الديكتاتورية وبشاعتها، تُنثَر نصوص العدل لتبدأ قصة التدويل.
مصر التي نهوى هائمة في أراجيح حلمها الفردوسي الطوباوي على الرغم من المحن. عرفناها وعرفنا كيف تكون صلابة بنيها، وإجماعهم على رفض قرارات الإيقاف والاعتقال من دون محاكمة، وصمودهم المطالب بالمعاملة الإنسانية والحقوق المهضومة وتسوية الخلافات ورفع الظلم وإشاعة روح العدل. وفي وقت تتطلب فيه الآراء الحقوقية الحياد التام، نرى كيف أنّ من يحملون لواءها يجدون سانحةً، ليصرّح بعضهم بمدح الجلّاد، وفي مواجهة هؤلاء، هناك من يسعون، ومنذ بداية الأزمة، إلى إيقاد شمعة تنير الطريق، وتفضح الزيف المنمّق للأمم بقول كفافيس: “ما من سفين من أجلك، ما من سبيل. وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خرابٌ، أينما كنت في الوجود”.
منى عبد الفتاح