بستان الكرز
بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
*(وغداً تأتلق الجنة أنهاراً وظلا
وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولى
وغداً نسموا فلا نعرف للغيب محّلا
وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلوا.. إنما الحاضر أحلى..).
– الهادي آدم
شاعر سوداني
.. ( إن العاصفة تهب على رؤوسنا، إنها تقترب، وسوف تقتلع من مجتمعنا الكسل وعدم المبالاة واحتقار العمل، والملل المرُ.. إنني سأعمل، وبعد خمسة وعشرين أو ثلاثين عاماً، سيكون هنا لكل إنسان عمل يعمله..)
هكذا يكتب (انطون تشيخوف) في مسرحيته (الأخوات الثلاث).
يقول ذلك بلسان بطله (توسنباخ)، ويكرره بلسان بطله الآخر (أندريه):
( إن الحاضر كريه، ولكنني عندما أفكر في المستقبل، أحس أنه جميل، أحس براحة في قلبي.. إن ضوءأً يشرق من بعيد، إنني أرى الحرية، إنني أرى كيف سأصبح أنا وأولادي أحراراً من الاسترخاء أحراراً من مجرد الحياة الطفيلية..).
و (أنطون تشيخوف) لا يحتاج إلى تعريف، فقد كان من النفر القليل الذي يتحرك في التاريخ، ويتحرك به التاريخ:
( إن الحياة قاسية، أنها لتبدو قاتمة عند الكثيرين هنا، ولا أمل فيها، لكن ينبغي أن نعترف بأنها تزداد كل يوم وضوحاً ويسراً، ويبدو أن الوقت ليس بعيداً عندما تصبح هذه الحياة عامرة بالسعادة، إن الإنسانية تبحث عنها في حماس، ولا شك أنها سوف تجدها.. آه لو أنها أسرعت بالمجيء).
ومات ( أنطون تشيخوف) في مطلع القرن العشرين، بعد أن فرغ من تأليف آخر مسرحياته (بستان الكرز) يروي (تشيخوف) قصة أسرة، تضطر إلى بيع بستانها سداداً لديونها.
تقول (آنيا) بطلة المسرحية (لقد بيع بستان الكرز، لقد ذهب، هذا صحيح، ولكنك يا أماه ما تزالين تحتفظين بطيبة قلبك ونقاوته، وسنقيم بستاناً جديداً، أكثر رونقاً من هذا البستان، سوف ترينه وسوف تدركين…).
(بستان الكرز) الذي كتب عنه (تشيخوف) هو روسيا القديمة، تنتقل ملكيتها من أسرة أرستقراطية إلى تاجر غني هو (لوباهين) الذي لا يعبر عن مستقبل روسيا.
أما روسيا، (بستان الكرز) الآخر الذي تبشر به (آنيا) فسوف يبنى بالعمل…
وينهي (تشيخوف) مسرحيته بأصوات المعاول تجيء من بعيد، وهي تضرب في أرض روسيا، لاستنبات بستان كرز آخر.
* * *
ويبدو أن لكل بلد بستان كرز، وأن ملكية هذا البستان، تظل تنتقل من أسرة إلى تاجر لا يعبر عن المستقبل.
مثلما أن لكل بلد (تشيخوفه) و(بوشكينه)..
لقد صاغ (تشيخوف) و(غوركي) و(تولستوي) و(بوشكين).. الحلم
وتركوا للآتين أن يحلموا، وأن يجعلوا الحلم حقيقة
* * *
صحيح أن الحياة الإنسانية لا يصنعها فرد، وإنما تصنعها جموع الناس، ينسجونها ويطورونها، وينقلونها إلى مراحل تاريخية صاعدة، بأعمالهم ومعاناتهم وتضحياتهم..
ولكن الصحيح أيضاً أن الحياة الإنسانية، يصنعها أيضاً الأفراد الذين يحملون عبقرية الجماعة، والذين يحسنون الإنصات إلى نبضاتها واكتشاف ارهاصاتها، والتبشير بالجديد المتخلق فيها، والنضال من أجله باسم الناس جميعاً..
* * *
أصيغوا السمع، وستسمعون أصوات المعاول تتناهى من بستان الكرز.. بستاننا!.
[email]yagobabi@hotmail.com[/email]