جماعات العنف في أفريقيا.. الحصاد المرّ
ويزداد القلق على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي من تفشي الجماعات الإرهابية حتى أصبح نشاطها الهدام بمثابة وصفة جديدة للفوضى. كما يمثل ارتباطها بعصابات الجريمة المنظمة المحلية منها والعابرة للحدود وتشابك علاقاتها معها بداية الطريق للتدمير، والرفض العنيف لكل شيء ابتداء من أنظمة الحكم وحتى شكل الحياة التي تعارف عليها الناس.
نشوء الجماعات
على نسق القول بأن الإرهاب لا دين له ولا وطن، فإنه ليس هناك إرهاب واحد بل عدة أنواع، ولكنها تخضع في مجملها إلى اختلاف الدوافع والمظاهر والأهداف، وتتفق في عدم أخلاقيتها حتى لو جاءت من خلف ستار ديني وأخلاقي. فيمكن للجماعة الواحدة تبديل ثوبها في اليوم عدة مرات، ويمكنها الوقوف في خانة الجماعة المناضلة ضد النظام الحاكم صباحا، ثم الهجوم على الأبرياء ليلا.
“يزداد القلق إقليميا ودوليا من تفشي الجماعات “الإرهابية” حتى أصبح نشاطها الهدام بمثابة وصفة جديدة للفوضى، كما يمثل ارتباطها بعصابات الجريمة المنظمة المحلية منها والعابرة للحدود وتشابك علاقاتها معها بداية طريق التدمير”
عندما بدأت الدراسات الاستقصائية في الغرب لمعرفة أسباب واتجاهات الإرهاب في سبعينيات القرن الماضي، لم تصل إلى تعريف محدد وإنما وضعت اعتقادا ظل راسخا خلال ذلك العقد من الزمان. تمثل ذلك الاعتقاد في أن العمليات الإرهابية ترتكبها بعض الجماعات اليسارية المتطرفة. وظهر ذلك التوجه مع نشاط بعض الجماعات كالألوية الحمراء الإيطالية والجيش الأحمر الألماني والمجموعات الأميركية اللاتينية المختلفة.
لا يُعتبر ذاك الاعتقاد خاطئا تماما بالنظر إلى أبعد من ذلك التاريخ، حينما انخرط الثوار الاشتراكيون الروس وبعض الجماعات السرية ذات الصبغة الشيوعية في مجموعة نشاطات إرهابية كانت ترى أن هدفها الأخلاقي هو تحقيق التحرر القومي لبعض شعوب العالم، فبذرت هذه البذرة خارج أوروبا وكانت من ضمن وجهاتها أفريقيا. وبما أن تيار اليسار العالمي كان يقف في وجه تعرض الناس للقمع والاستغلال والتهميش مدفوعا بالأفكار الاشتراكية، فقد مثلت هذه التحركات نوعا من نضال حركات التحرر الأفريقية ضد الاستعمار.
ولما لم يصل العالم إلى تعريف محدد للإرهاب، فقد كان العديد من الإحصائيات تأخذ في طريقها نشاطات المنظمات الثورية والجماعات التي تطالب بحق تقرير المصير في أفريقيا. وقد نشطت تلك الحركات النضالية في أفريقيا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
وبعد أن تحررت معظم الدول الأفريقية واستبدلت أنظمتها الاستعمارية بأنظمة عسكرية في أغلبها، نشأت جماعات أخرى تطالب بالديمقراطية. ووسط هذه الجماعات تسربت تيارات إسلامية تنادي بالعدالة، فتكون هذا الهجين الذي تغذى بالأفكار الثورية التي تروج للتغيير بالعنف، وأخذ الصبغة الإسلامية التي كانت تعاني تمييزا أيضا وسط الديانة الرسمية المسيحية وطوائف أخرى تدين بالروحانيات.
وبنفس التحول الدراماتيكي الذي خفت فيه صوت الإرهاب اليساري في العالم، وبحصول معظم البلدان الأفريقية على استقلالها، فقد مثل عقد الثمانينيات من القرن الماضي عمليات إرهابية من اليمين المتطرف، كالهجوم على السفارات الغربية في أفريقيا وتفجير الطائرات مثل حادثة طائرة لوكربي بإسكتلندا.
وجد الإرهاب أسبابه الموضوعية في تربة أفريقيا الخصبة والمترعة بتداخل العوامل الأيديولوجية مع الأفكار المتطرفة، وحالات عدم الرضا العام من عدم المساواة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتُعتبر الظروف التي نشأت فيها هذه الجماعات، خاصة تلك التي ازداد فيها نشاط الجماعات ذات الصبغة الإسلامية وارتباطها بتنظيم القاعدة وحتى مقتل زعيمها أسامة بن لادن، ظروفا حملت الكثير من بواعث البقاء.
تداخل السياسي مع الديني
جاء التركيز على تصاعد وتيرة الإرهاب في أفريقيا من انفراد القارة السمراء بسمات تساهم في رسوخ أسباب ظاهرة العنف في جذورها. تأسس العنف في أفريقيا على تاريخها المغموس في العنصرية الاجتماعية واختلاف العديد من أشكال الحكم والممالك وحتى دخول الاستعمار الذي قام بترسيم الحدود. وهي ليست حدودا على الأرض فحسب، وإنما تم تقسيم البلدان على أساس عرقي وطائفي وإثني، وفي مجمله يرزح تحت نار القبلية وتكتلاتها.
وبعد أن نالت أغلب الدول الأفريقية استقلالها، لم تهنأ بحكومات وطنية قائمة على أساس ديمقراطي وإنما ساد الحكم العسكري الدكتاتوري زمنا طويلا، وهو مدعوم إما بأيديولوجية خارجية أو بالنظم القبلية المحلية.
“تعاني دول أفريقيا جنوب الصحراء من استشراء التطرف والعنف، وقد عانت بلدان مثل مالي وتشاد والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى وإثيوبيا والصومال، من التطرف بوصفه التحدي الأوحد الأكثر أهمية الذي يواجهها”
تعاني دول أفريقيا جنوب الصحراء من استشراء التطرف والعنف، وقد عانت بلدان مثل مالي وتشاد والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى وإثيوبيا والصومال من التطرف بوصفه التحدي الأوحد الأكثر أهمية الذي يواجهها. وهذه الدول الغارقة في ديماغوجيتها واستبدادها، فشلت في محاربة العنف والتطرف كما فشلت في مكافحة المجاعات والأمراض المستوطنة والجماعات الإرهابية.
ولا يمكن بأي حال تجاوز مجزرة رواندا عام 1994 كأكبر إبادة جماعية في أفريقيا حدثت في القرن العشرين، نفذتها جماعة جيش نظام الهوتو المعروف بأنتيرا هاموي والتي قتلت ثمانمائة ألف فرد من التوتسي، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
وهناك الجبهة المتحدة الثورية في سيراليون، وهي جماعة مسلحة سعت للسيطرة على مناطق إنتاج الألماس، وأدخلت البلاد في حرب أهلية استمرت 11 عاما وأودت بحياة ما يزيد على خمسين ألفا خلال السنة الأولى وحدها. وكان نشاطها يقوم على ممارسة الابتزاز لتوفير حاجتها المالية، ثم لجأت إلى الأساليب الإجرامية والإرهابية وحرب العصابات لمحاربة الحكومة وبث الذعر بين الجماهير، وتوسع نشاطها وامتد إلى ليبيريا وغينيا.
وهناك جماعة الشعب ضد العصابات، والتي تأسست عام 1996 في كيب تاون بجنوب أفريقيا، بهدف مكافحة الجريمة والعنف والمخدرات. لكنها سرعان ما تحولت إلى مناهضة الحكومة والغرب، وتبنت صوت المسلمين في كيب تاون، ونفذت عدة عمليات إرهابية باستخدام القنابل والمتفجرات في أهم المناطق السياحية.
أما الجماعات الأفريقية التي ارتبطت بالإسلام بشكل واضح، فكان من أهمها حركة بوكو حرام التي نشأت في نيجيريا إثر تمردها على الحكومة النيجيرية في يوليو/تموز 2009. ولم يقتصر عنفها على الحكومة فقط وإنما شملت المدنيين، فأحدثت تدميرا واسعا في البنية التحتية للمرافق العامة من مدارس ومستشفيات وغيرها.
ولم يكن اختطاف 276 فتاة من داخل مدرسة بولاية “بورنو” شمال شرق نيجيريا في أبريل/نيسان 2014 هي العملية الأولى، وقد نفذتها بهدف الضغط على الحكومة النيجيرية للإفراج عن بعض عناصرها. كما لم تكن العملية الأخيرة تلك التي أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 24 من رجال الأمن النيجيريين في 27 أغسطس/آب 2014، أثناء الهجوم على قاعدة عسكرية نيجيرية تابعة للشرطة شمال شرق نيجيريا.
انخرطت جماعة بوكو حرام في الإرهاب المنهجي، وتبنت أيديولوجية لا تمت إلى تعاليم الإسلام ولا تقاليد البلاد بصلة، ولكنها بوصفها بذرة تمّ غرسها في هذه التربة في أفريقيا جنوب الصحراء فإنها وجدت فيها عناصر نمائها. فهناك عدم عدالة التنمية في بلد يعد الأكبر أفريقيا في الاحتياطي النفطي، حيث يعاني المسلمون الذين يتركزون في شمال البلاد من الفقر، بينما يتركز المسيحيون في جنوب البلاد ويستفيدون من عائداته. كما هناك غياب واضح للتعايش السلمي الذي هيأ لهذه الجماعة مناخا مواتيا.
صوت أفريقيا يصل العالم
بالرغم من أن الإرهاب قديم في أفريقيا، فإن تسليط الضوء عليه حاليا جاء بسبب ضجر شعب القارة الأفريقية من رزحها تحت نير الظلم ولعبها دور الضحية الأبدي، وهو ما جعل صوته يمتد إلى خارج أسوار الدكتاتوريات وجحيم جماعات الإرهاب.
“لأن الجماعات الإرهابية في أفريقيا سبقت الجماعات الجهادية الإسلامية بفترة طويلة، فإن تحويلها إلى أيديولوجيا من قبل البعض قد يضمن لها الاستمرار حينا، ولكنها ستفشل في التحول إلى عقيدة سياسية في معظم الأحيان”
يمكن الربط بسهولة بين أيديولوجيتي بوكو حرام وبقية التنظيمات الجهادية، فكلها تتفق في تحريم التعليم الغربي، وفي حالة بوكو حرام فقد مثل هدف إنشائها الرئيس في معنى اسمها بلغة الهوسا، ثم تطور هدفها إلى تأسيس دولة إسلامية في شمال نيجيريا. وألقى ذلك ظلالا كثيفة على تطبيق هذه القاعدة على أرض الواقع.
كما تتفق هذه الجماعات في استهداف قطاع النفط، فاستهداف بوكو حرام لمناطق النفط في نيجيريا -والتي تعتبر أكبر منتج للنفط في أفريقيا- واستغلالها ضد الحكومة من شأنه أن يشلّ الاقتصاد ويسبب أزمة لمعظم الدول المستهلكة للنفط النيجيري، خاصة في ظل اضطراب دلتا النيجر التي كانت بمثابة منفذ بديل لتصدير النفط إلى الغرب.
ثم هناك انتشار نماذج القاعدة في منطقة غرب أفريقيا، التي تعاني أصلا الكثير من الصراعات الدينية، والعرقية، والطائفية، مما قد يهدد ليس الأنظمة السياسية فحسب وإنما يزيد من وتيرة عدم الاستقرار.
ويستشري في القارة الغنية بمواردها والفاشلة في إدارتها عنصر الفساد مع عدم الاستقرار السياسي، مما أدى إلى تفاقم الخسائر المادية والبشرية الناتجة عن جرائم القتل الجماعي.
تُعتبر مواجهة هذه الجماعات التي يتفاقم نفوذها والتي طورت من نشاطاتها وقدراتها، في ظل انشغال حكومات المنطقة بالتشبث على كراسي الحكم؛ من التحديات الجسام التي تجابه أفريقيا جنوب الصحراء. هناك أمور متنازع عليها تدفع بالمنطقة إلى مزيد من الانفجارات التي ربما تكون جزءا من كل، فالإرهاب ظاهرة مستمرة وسط أجواء مخيمة من اليأس، وكلما قطعت رأسا نبت في مكانه سبعة رؤوس.
ولأن الجماعات الإرهابية في أفريقيا سبقت الجماعات الجهادية الإسلامية بفترة طويلة، فإن تحويلها إلى أيديولوجيا من قبل البعض قد يضمن لها الاستمرار حينا، ولكنها ستفشل في التحول إلى عقيدة سياسية في معظم الأحيان، وهذا من شأنه أن ينهي حالتها المكسية بإهاب الدين. ووسط هذه الأجواء سيعود إلى أفريقيا العنف الذي تعرفه ليسود في الواجهة إلى حين.
الكاتبة : منى عبد الفتاح