مقالات متنوعة

السودان والرقّ.. ظاهرة تقترفها العصابات أمام ضعف الحكومة ووفرة الحروب


السودان والرقّ.. ظاهرة تقترفها العصابات أمام ضعف الحكومة ووفرة الحروب
يُعتبر السودان أحد أكثر الدول الإفريقية تأثراً بتجارة الرقيق، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ أيّاً من حكوماته الوطنية لم تعتمد قانون مكافحة الاتجار بالبشر، إلّا في مارس/آذار من العام الجاري 2014، وهذه التجارة التي سوّدت صحف تاريخه القديم والحديث حقّ لها أن تنتزع مقولة توفيق الحكيم: “لن يذهب الرقّ من الوجود، لكلّ عصرٍ رقّه وعبيده”، من صدر روايته عصفور من الشرق، وتعلقها على صحيفة الرقّ في السودان.

مهدّت إجازة القانون لإقامة المؤتمر الدولي لمكافحة الاتجار بالبشر في الخرطوم في بين 13-16 أكتوبر/تشرين أول الماضي، بمشاركة 168 شخصية محلية وعالمية، منها ممثلون من الولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا ودول القارة الأفريقية. وقد جاء المؤتمر ملحّاً ومبكّراً عن ذكرى اليوم العالمي للرقّ التي من المفترض أن تكون في 2 ديسمبر/كانون أول، اليوم الذي حددته الأمم المتحدة عام 1949.

كان يُشار إلى إدانة تجارة الرقيق باستحياء، قبل أن تُطلق منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “يونيسكو” مشروع “طريق العبيد” 1994، لتحقيق أهداف أوردتها المنظمة العالمية لكسر حلقة الصمت في شأن تجارة الرقيق والعبودية. ولم يكن الحثّ على الإسهام في فهم أسبابها العميقة، المستترة منها والبادية للعيان ومخاطرها كذلك، بالشيء اليسير. أوردت المنظمة الأممية أساليب العمل في دراسات علمية متعددة التخصصات، وسلطت الضوء على آثار الرقّ على المجتمعات الحديثة، ثم ركزّت على أنّ الإسهام في إشاعة ثقافة السلام والتعايش السلمي بين الشعوب، بتشجيع الإمعان في الحوار بين الثقافات، تمهّد لاحترام الإنسان والحفاظ على كرامته.

عصابات وهجرات غير شرعية

ويمثّل السودان، بحكم موقعه الجغرافي، معبراً وهدفاً للهجرة غير الشرعية، خصوصاً من الدول الأفريقية المجاورة، كما يُعتبر مصدّراً للهجرات غير الشرعية للمواطنين السودانيين واللاجئين من دول القرن الأفريقي، والمتسربين عبر حدود إقليم دارفور من دول الجوار الأفريقي إلى أوروبا وإسرائيل ودول الخليج.

الأخطر هو غضّ الطرف عن العصابات التي تمارس هذه التجارة في شرق السودان

تتوحد الأسباب أمام هذه الجريمة الكونية المنظمة، لكنها في السودان يُضاف إليها بُعد سياسي آخر، وهو ناتجٌ عن تلكؤ الحكومة السودانية، حتى رضوخها، أخيراً، لاستصدار قانون مكافحة الاتجار بالبشر. والأخطر هو غضّ الطرف عن العصابات التي تمارس هذه التجارة في شرق السودان، إلى الحد الذي يدور حوله الهمس أنّ الحكومة قامت بتسليح القبائل العربية، لتتحمل نيابة عنها الدخول في الصراع بين القبائل وتشتت مطالبهم، وهو استنساخ لما حدث في دارفور من قبل بتسليح القبائل العربية “مليشيا الجنجويد”، ضد القبائل الأفريقية هناك. وقد ينجح النظام، هذه المرة أيضاً في تدمير منطقة شرق السودان التي تقطنها قبائل عديدة، أكبرها المنتمون إلى قبائل البجا الذين وقفوا في وجه حكومة الخرطوم، مطالبين بتنمية الإقليم والكفّ عن تهميشه وزيادة إفقاره. وتتداخل هذه المطالب الحقوقية مع السياسية، وكان ممكناً أن تشعل قضايا الإقليم شرق السودان كله، إلّا أن الحكومة قلبت لها ظهر المجن بشكل أظهر قضية الاتجار بالبشر وكأنّها مشكلة آتية من الخارج، خصوصاً في ظل معاناة الإقليم من مشاكل اللجوء. ففي عام 2013 وحده، وصل عدد اللاجئين إلى مائة ألف لاجئ، تم تسريب 95 ألف منهم عبر تجارة البشر.

وما يساعد على استفحال المشكلة في السودان استشراء الفقر وتفشي البطالة وتأثير الحروب واتساع رقعة النزاعات المسلحة، وتفاقم الفساد في الحكم والإدارة والخدمة المدنية. ويمثّل استقواء العصابات المتعددة الجنسيات واستباحتها حدود السودان المفتوحة على دول كثيرة، والمنفذ الممتد المتمثل في البحر الأحمر عاملاً حيويّاً لتنامي عملية التهريب والاتجار بالبشر معاً.

وليس هناك أدلّ على تفاقم الظاهرة، والتي كانت الحكومة السودانية قد حاولت إخفاءها، حتى طفت على السطح قصص الموت في سبيل الهجرة، وتزايد فقدان الأرواح في البحار وسهول السودان المنبسطة، والجثث المعلقة على الأسوار الشائكة للحدود الدولية. ولم تبدأ القصص بتصريح معتمد إحدى المحليات في ولاية كسلا شرق السودان في مايو/أيار 2011 عن وجود شبكات أجنبية، تعمل بمعاونة سودانيين على تهريب البشر إلى إسرائيل، عبر منطقة شلاتين في ولاية البحر الأحمر. ثم القبض على المتهم الرئيس في قضية تهريب البشر في أغسطس/آب 2011، والتي راح ضحيتها عدد من الأشخاص، بعد أن غرقوا في البحر الأحمر، جنوب مدينة سواكن الساحلية. كما أنّها لم تنته بمحاولات أخرى في المدن المتاخمة للحدود الشرقية، راح مئات من ضحاياها حرقاً، بعد أن نجوا من الغرق. وهذه الحوادث تدعّم حقيقة أنّ نشاط الاتجار بالبشر في السودان عمل منظم، اكتملت أركانه على مدى سنوات، على طول الحدود شمال شرقي السودان، وعلى نطاق واسع.

معبر للاتجار البشر
“يمثّل استقواء العصابات المتعددة الجنسيات واستباحتها حدود السودان المفتوحة على البحر الأحمر ودول كثيرة، عاملاً حيويّاً لتنامي عملية التهريب والاتجار بالبشر معاً

أمّا حديث الحكومة السودانية على لسان معتمد معتمدية اللاجئين، أحمد الجزولي، أنّ السودان معبر فقط لهذه الظاهرة، فهو لا ينفي الوقائع المثبتة، كما لا يحلّ القضية، بل يزيدها تعقيداً. ففي حالة أن يكون السودان مسرحاً رئيسيّاً للاتجار بالبشر، أو معبراً فقط، فهذا لا يخفّف من مرارة الحقيقة التي كشفت عنها منظمات الأمم المتحدة، وهي وجود وسطاء وتجار سودانيين من قبائل محلية. وهذه الفئة من التجار تستقوي بقبائلها في ظلّ التهميش الحكومي والوضع الاقتصادي المتردي وقصور الظلّ الأمني. وقد بلغت الجرأة بجماعات متنفذة إلى وقوفها في وجه الحكومة، وحرّرت سجيناً محكوماً عليه بالسجن مدة عشر سنوات، عقب إدانته بالتورط في تجارة البشر، من سجن في ولاية كسلا شرق السودان، قبل انقضاء شهره الأول. ولم ينته الأمر بالتحقيق مع رجال شرطة مسؤولين عن هروب السجين، ولكن، هناك اتهام وجهته منظمات دولية إلى مسؤولي أمن سودانيين بالضلوع في عمليات الاتجار بالبشر بين شرق السودان ودول الجوار.

والناظر إلى تاريخ السودان يستطيع أن يدرك أنّ لهذه الظاهرة إرثاً في المجتمع السوداني كان أبطاله سودانيين، لطالما نظر إليهم المجتمع السوداني بإعجاب. أبرز التجار كان الزبير باشا الذي أثرى وتفاقمت ثرواته مع دخول الحكم التركي إلى السودان، وكان ضحاياه قبائل شعب جنوب السودان، وجبال النوبة. ثم جاءت الثورة المهدية وأسّست لهذه الظاهرة وألبستها لبوساً دينيّاً، ووجد الزبير باشا دعماً قويّاً، زينه مناضلاً في نظر سودانيين كثيرين.
الزبير باشا مع أحد عبيده

في ظل حماس الدعوة إلى المهدية والطموحات التوسعية للمهدي وخليفته، سادت ظواهر اجتماعية سالبة مدمرة لتركيبة المجتمع وكيان المرأة، مثل استرقاق القبائل، بعضها إلى جانب السبي الفردي الذي يقوم به الأفراد، نتيجة الحروب التوسعية. وفي ذلك ذكر الدكتور، مختار عجوبة، أنّه في نهاية عصر التركية، وخلال عصر المهدية، أخذ السبي منحىً منظماً، أوجد لها المبررات الدينية المهدي نفسه، وتمادى فيه الخليفة عبد الله من بعده.

كانت تلك من أكثر التجارب مرارة للمجتمع السوداني، وأشدها ظلامية. وبما أنّ المجتمع كان مجتمعاً تلعب فيه مؤسسة الاسترقاق دوراً أساسيّاً، سواء على مستوى الحياة الأسرية، أو على مستوى الأحوال الشخصية، أو الأنشطة الاقتصادية، فإنّ المرأة كانت الأكثر تأثراً بما تم، وذلك في هدم مكانتها في البنية الاجتماعية وأنساقها الدينية والاقتصادية والسياسية. ويوضح مختار عجوبة، كيف أنّ الرق أخذ تبعاً لذلك الوضع أشكالاً مختلفة ما بين السبي والتملك. وذكر أنّه كان لأمراء المهدية الآخرين أعدادٌ متفاوتة من الزوجات الحرائر والسراري، كيونس ود الدكيم، والي دنقلا والأمير، محمد عثمان أبو قرجة، والزاكي طمبل، الذي كان له من النساء فوق المائة، وبعد مقتله وزعهنّ الخليفة على عبيده وعلى خاصته.

لطخ كثيرون أيديهم، وضلعوا في مسرح الرقّ السوداني بشكلٍ أو بآخر. لا فرق بين الزبير باشا والمهدي وبين التجار الفرنسيين الذين كانوا ينقلون الرقيق السوداني إلى مصر، تحت ظل الراية الفرنسية في عهد الحكم التركي المصري (عام 1821- 1885)، وهي فرنسا ملهمة الحريات والحقوق النابعة من الثورة الفرنسية عام 1789، ومن فكر فلاسفتها مونتسكيو في “روح القوانين” وجان جاك روسو في “العقد الاجتماعي” وغيرهما مما صاغه المفكرون الفرنسيون من أفكار، ساهمت في التحولات السياسية في أفريقيا والعالم.

بذلت إدارة الحكم البريطاني في السودان مجهودات للحدّ من تجارة الرقيق، إلّا أنّها سرعان ما تناست ذلك كله إثر افتتاح قناة السويس عام 1869. وعند مجيء الحاكم العام البريطاني للسودان، تشارلز غردون (1875 1879)، شهدت فترته تورط القنصليات الأجنبية الموجودة في السودان، مثل قنصليات بريطانيا وفرنسا والنمسا والولايات المتحدة، في تجارة الرقيق، وذلك بأن مكّنت منسوبيها من الحصول على امتيازات الحماية الأجنبية تحت ظلها، فازدهرت هذه التجارة. ولم تفلح البعثات التبشيرية التي مرّت على السودان في تحقيق أهدافها، وهي إدخال أهل جنوب السودان في المسيحية ومحاربة تجارة الرقيق، من تحقيق هدفها الثاني، وذلك لمقاومة الإدارات المحلية التي نشطت على يديها تلك التجارة.
محاربون مع إحدى الجماعات المسلحة في شرق السودان (15ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

وبعد أن تلاشت الظاهرة، وتمّ إلغاؤها فيما بعد، كان ذاك التحرير الأول لفقراء السودان وجماعاته المهمشة اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، ونشرت أدبياتٌ كثيرة لجندريات سودانيات، أنّ هناك دوراً كبيراً للمبشّرات المسيحيات في تعليم إماء سودانيات كثيرات فنّ التوليد والتمريض، تعويضاً لهنّ عن حياة الاسترقاق.

عبودية

لهذه الظاهرة إرث في المجتمع السوداني، كان أبطاله سودانيين، لطالما نظر إليهم المجتمع السوداني بإعجاب

وليس التاريخ وحده ما تترسخ بين ثناياه ثقافة العبودية، فحديثاً عادت كاعتقاد لدى حكومة الإنقاذ، وهي وإن كانت لا تحرّمها إلّا بقانون أُجبرت على إجازته، فإنّ إشاراتها كانت واضحة في خطب للرئيس، عمر البشير، كانت أقواها وأكثرها إمعاناً في العنجهية، ما وصف بها شعب جنوب السودان إبان مطالبتهم بالانفصال قبل أن يتحقق في عام 2011. فقد قال في خطاب شعبي بأنّهم لا ينصلحون إلّا بالعصا، مستلفاً بيت المتنبي: “لا تشترِ العبد إلّا والعصا معه/ إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ”. ثم كان هناك تقليد إحضار الضباط الشماليين أطفالاً جنوبيين، يخدمونهم من دون أجر في الشمال، بحجة أنّهم فقدوا ذويهم في الحرب.

أما الاتجار بالبشر كظاهرة كونية، فتنشطها عوامل أخرى غير عامل اللون والإثنية، فقد تعرّض شباب شماليون، أيضاً، للبيع، فيما تسمى سوق العبيد في الصحراء بين السودان وليبيا ومصر عام 2012، بعد احتجازهم وتعذيبهم. وبدأت معاناة المواطنين السودانيين، منذ تحركهم من العاصمة الخرطوم التي غادروها بعد دفع مبالغ ضخمة للوسطاء الذين وعدوهم بمستقبل عملي باهر، حتى أوصولهم إلى هذه السوق.

قد يكون التحرير الثاني المنشود في اعتماد السودان قانون الاتجار بالبشر أخيراً، والذي يقضي بإنزال عقوبة الإعدام أو السجن مدة لا تقل عن خمس سنوات، ولا تتجاوز 20 عاماً على مرتكبي الجريمة. وإذا كان الزبير باشا قد أخذ الأوربيين وتجار الرقيق في عهدٍ مضى، ليرقصوا على طبول التام تام على ضفاف بحر الغزال في جنوب السودان، فتحرير السودان من الرقّ الحديث يحتاج لأبرع من رقصة اليوناني “زوربا” في رواية نيكوس كازنتزاكي، ليعلّم حكومة السودان كيف تقفز إلى أعلى، بإقامة مؤتمر لمكافحة الاتجار بالبشر، وهي لم تنظّف ما علق بقدميها بعد.

الكاتبة : منى عبد الفتاح